“مرشحنا.. أخي رجب طيب أردوغان”

لا زالت عبارة “مرشحنا اخي عبد الله غل” بجمالها وجلالها يتردد صداها العذب في الآذان. لم تكن مجرد إعلان عبد الله غل مرشحا للرئاسة عام 2007 وحسب، انما كانت عنوان إخاء ووفاء لأخوة الدرب ووحدة المصير.

كان السياسي المخضرم رجب طيب أردوغان يدرك تماماً أن ترشيح عبد الله غل لمنصب الرئاسة، سوف يعتبر تحدياً لأطراف كثيرة وقوى متعددة. كان يعلم يقيناً أنه إيذان بإعلان الحرب على النظام المؤسس أو ما يسمى بالدولة العميقة، ومعها القوى المناهضة للتغيير. كانت عملية ترشيح غل مخاطرة مجهولة العواقب، وضعت مصير حزب العدالة والتنمية في نفق مجهول.

كان أردوغان يرى انه من المبكر الصدام مع النظام المؤسس وما يسمى بالدولة العميقة، لكنه أمام اصرار صديقه ورفيق دربه، عبد الله غل، على الترشح للرئاسة، حسم قراره لصالح الأخوة والوفاء للعهد، فأطلق عبارته الشهيرة “مرشحنا.. أخي عبد الله غل” لتبدأ بعدها مرحلة طويلة من الصراع و الحرب الخفية مع تلك الأطراف والقوى.

لم تنتظر المحكمة الدستورية العليا طويلاً، اذ سارعت بعيد انتخاب عبد الله غل رئساً للجمهورية إلى نظر دعوى قضائية ضد حزب العدالة والتنمية، تطالب بإغلاقه ومحاكمة قياداته، بتهمة أنه أصبح بؤرة معاداة للعلمانية!.

يومها نجا حزب العدالة والتنمية من غائلة الإغلاق بفارق ضئيل، لكن عبد الله غل قضى سنوات رئاسته السبع بالتمام والكمال دون أن تطرف له عين من أدنى درجات من المتاعب.

تغيير شكل الحكم في تركيا، من وزاري برلماني الى رئاسي، كان حلماً يراود جميع السياسيين الأقوياء، من لدن عدنان مندرس الى تورغوت أوزال مرورا بنجم الدين أربكان، غير أن المعطيات والظروف أيامها لم تسمح لهم بالقيام بهذه المهمة الشاقة.

رجب طيب أردوغان، الذي تمكن من السيطرة على المركز، أخذ على عاتقه خوض غمار هذا المسار العسير، فبدأ بالتشاور مع الأحزاب السياسية والفعاليات المدنية ومنظمات المجتمع المدني، ونتج عن هذه المشاورات الاتفاق على تعديل 61 مادة في الدستور التركي.

لكن أحزاب المعارضة امتنعت عن إكمال المشوار بالتحول إلى النظام الرئاسي، فاستمر حزب العدالة والتنمية لوحده، ثم حول حزمة التعديلات الدستورية إلى الاستفتاء الشعبي، حيث نالت ثقة الشعب، الذي أجازها، وأجاز من خلالها انتخاب رئيس الجمهورية من طرف الشعب، وليس من طرف البرلمان، كما كان ينص الدستور السابق.

عندما قرر الترشح لرئاسة الجمهورية كأول رئيس جمهورية ينتخبه الشعب مباشرة، اشترط على من يريد ان يخلفه في رئاسة الوزراء، أن يتعهد بالاستمرار في التعديلات الدستورية، وألا يتوقف عن ملاحقة الكيان الموازي، لأنه يشكل خطراً وجوديا، وألا يتدخل في تشكيلة الأمانة العامة للحزب.

كان اسم عبد الله غل أحد أهم الأسماء المطروحة لخلافة أردوغان، في رئاسة الوزراء ورئاسة الحزب معا. لكنه رفض الالتزام بأي تعهد أو شرط أياً كان. بل صرح قائلاً بأنه يشترط القيام بصلاحيات رئيس الوزراء كاملة غير منقوصة. كان ذلك عمليا، يعني التراجع عن مشروع التغيير الدستوري، الذي أولاه أردوغان أهمية قصوى، مما أدى الى استثناء غل من هذه المهمة ليكلف أحمد داود أغلو برئاسة الحزب ورئاسة الوزراء.

لم يخف عبد الله غل بعدها عدم رضاه عن حزب العدالة والتنمية وسياسات أردوغان، بالتلميح أحيانا وبالتصريحات أحياناً أخرى. مما أهله ليكون من أقوى الشخصيات، ربما الشخصية الوحيدة، التي توجهت نحوها أحزاب المعارضة لتكون مرشحها المشترك.

في هذه المرحلة التاريخية الحساسة العصيبة التي تمر بها تركيا، انتظر كثيرون – ممن تذكروا عبارة “مرشحنا..أخي عبد الله غل” – من غل الوفاء بالعهد ورد الجميل، بقوله: “مرشحنا.. أخي رجب طيب أردوغان”.

لكن عبد الله غل عوضا عن ذلك، فتح الباب على مصراعيه لمقايضات البازار السياسي مع أحزاب المعارضة، باعثا رسالة واضحة عن استعداده التام لخوض الانتخابات ضد رفيق درب الأمس، رجب طيب أردوغان.

كان عبد الله غل المرشح المفضل لرئيس حزب الشعب الجمهوري، كمال كليجدار أوغلو، لأنه يخلصه من مشاكل التجاذبات الداخلية داخل حزبه، وكذلك الأمر بالنسبة لحزب السعادة الذي يحلو له لعب دور الوسيط المفتاح.

لكن جهود أحزاب المعارضة هذه فشلت في تحقيق الإجماع حول عبد الله غل، بسبب تعنت رئيسة حزب “إيي”، ميرال أكشنار، وإصرارها على الترشح بنفسها للرئاسة.

بعد فشل المعارضة في الالتفاف حوله، عاد عبد الله غل إلى الانزواء في منزله، مخلفاً وراءه إحباطاً لدى قطاع عريض، كان ينظر للعلاقة بينه وبين رجب طيب أردوغان بعين من القدسية والملائكية.

عجائب السياسة ام تجليات القدر .. لا ندري.. لكن الزمان دار دورته، ليأتي أناس من الطرف المقابل، كانوا حتى البارحة من أشد المعارضين، ليظهروا موقفا تاريخياً رجولياً بطولياً في التصدي لانقلاب 15 تموز 2016، ثم ليسطر أولئك البعيدون صفحة جديدة في الوطنية والوفاء بالعهود.

اليوم، يقف دولت بهجلي رئيس حزب الحركة القومية، موقف أردوغان قبل أحد عشر عاماً، ليعلن على رؤوس الأشهاد: “مرشحنا.. أخي رجب طيب أردوغان”!.

 

 

.

محمود عثمان

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.