فرنسا تكشف عن عورتها

استشهد 6 حراس قرويّون إثر هجوم شنته عناصر منظّمة بي كا كا الإرهابيّة فجر الخميس، على منطقة قاعدة تؤمّن مشروع تعبيد طريق في قرية “ميداندره” في ولاية سييرت التركية٬ وما يلفت الانتباه أن هذا الهجوم حدث في وقت قضت فيه قوات الأمن بشكل شبه كامل على خطر الإرهاب بفضل كفاحها الناجح ضده. كما يمكن اعتبار الهجوم، من ناحية، رسالة يحاول التنظيم إيصالها بشكل عاجز وجبان مفادها “لا زلنا على أرجلنا!”، ومن ناحية أخرى كمحاولة انتقام للخسائر الفادحة التي مني بها نتيجة الكفاح الحازم ضدّه.

لقد خسر التنظيم الكثير من القوة والتأثير نتيجة نسخة غير مسبوقة من مكافحة الإرهاب التي تقوم بها قوات الأمن. فتم تحييد الآلاف من عناصر التنظيم إثر تلك العمليات، فيما هرب آلاف آخرون منهم إلى سوريا ليهرعوا إلى تولي المهام الجديدة التي أوكلها إليهم ساداتهم في شمال سوريا.

والحقيقة فإن الجميع قد فطن إلى أنه يأتي على رأس هذه المهام المحافظة على مناطق تلك القواعد التي تشكَّل ضد تركيا، وذلك من خلال الحجج التي ظهرت بشكل جلي بفضل عملية غصن الزيتون في عفرين. فقد ظهر للعيان أنّ التنظيم، الذي يزعم أنه يخدم الأكراد، يخدم في الواقع الإمبرياليين أعداء عقيدة الأكراد وثقافتهم وكيانهم. ولعله بفضل هذا الأمر قد أصبح أكبر مكسب حققته قوات الأمن التركية في مجال مكافحة الإرهاب هو حرمان أولئك الإرهابيين من الدعم الشعبي بشكل كامل. ولقد رأى الشعب الكردي بشكل واضح في ضوء التطورات الدولية الأخيرة من يخدم ذلك التنظيم ومن يعادي.

لكن هذا ليس السبب الوحيد، فالأهم هنا هو كون مكافحة الإرهاب تفصل بشكل قاطع بين الإرهابي وأهله كما ينبغي أن يكون. ونرى أن هناك توجهًا للابتعاد بشكل سريع عن المفهوم الذي يترك التنظيم الإرهابي مع الشعب وجها لوجه، ثم يحمل الشعب المسؤولية عن هذا “التواطؤ”. وفي الحقيقة فقد كان هذا التوجه المحروم من كل أوجه العقل والتفهم يمثل في الماضي أكبر وسيلة للدعاية للتنظيم الإرهابي، كما كان يساهم في تمهيد الطريق لتطور التنظيم. ذلك أنه كلما كانت الدولة تبتعد عن الشعب، أو بالأحرى تنظر إليه نظرة غضب، فقد كانت النتيجة الحتمية لهذه النظرة هي حدوث تقارب بين التنظيم الإرهابي والشعب.

واليوم هذا التأثير المغناطيسي بدأ يسير في الاتجاه المعاكس؛ إذ بدأت مكافحة الإرهاب تبعد الشعب عن التنظيم الإرهابي لا عند الدولة.

كان جميع حراس القرى الذين تسبب التنظيم الإرهابي في استشهادهم في سييرت من الأكراد الذين حملوا سلاح الدولة طواعية لحماية قراهم وأعراضهم ومستقبل أبنائهم وأمنهم ضد تنظيم بي كا كا الإرهابي. هذا فضلًا عن أن مهمتهم الفعلية كانت حماية أعمال تعبيد طريق سيمرّ من داخل قراهم ليجلب لهم الرفاهية والطمأنينة والمستقبل الفاخر.

إن أكثر شيء يحتاجه الشعب الكردي اليوم هو التخلص من التخلف واللحاق في أمان واستقرار بركب التطور الذي تشهده بقية مناطق تركيا. فالأكراد هم الذين يدفعون أغلى ثمن للكفاح المزعوم الذي يروج له التنظيم الإرهابي منذ 40 عاما لإنقاذ الشعب الكردي. فقد استهدفت أجيالهم، فهي اليوم تصارع ثقافة أفسدتها أيدولوجية حرب فوضوية وعرقية وفاشية ومعادية للدين، وذلك بدلا من تبني الثقافة الكردية التي يزعمون أنهم يريدون إنقاذها. ولقد ظهر عيانا بيانا في عفرين باسم ولصالح من يقوم التنظيم الإرهابي بكل هذه الأمور.

لقد أصبح المسؤولون الأمريكيون يعترفون بأنفسهم أن بلادهم هي التي تقف وراء التنظيم. وقد صاروا يرون أننا لم نعد ننخدع بألاعيبهم التي صارت في مستوى التلاعب بعقول الأطفال عن طريق تغيير الأسماء ليس إلا. ومعروف أنهم بالرغم من معرفتهم بهذا، فإنهم يجربون حظهم للمرة الأخيرة؛ إذ يحاولون تصفية ي ب ك – ب ي د وتأسيس حزب سياسي جديد يحمل اسم مستقبل سوريا.

لقد أدرك الجميع أن الاستحكام ضد أي هجوم كيميائي في عفرين وشن أي هجوم مضاد لا يستند فقط إلى الدعم الأمريكي، بل إن هناك دولا أخرى تدعم هذا الأمر.

وفي الوقت الذي حملت فيه رسالة الرئيس الأمريكي ترمب حول الانسحاب من سوريا عبارة كان تفسيرها “إنهم أحرار فيما يفعلون”، فقد سمعنا مساء اليوم ذاته بعض الأصوات التي أشعرتنا بأن هذا التصريح يمكن أن يكون إيذانا بتسليم الراية إلى فرنسا التي تعتبر الحليف السري للدعم الأمريكي لتنظيم ب ي د – بي كا كا. وقد صرحت فرنسا بأنها تستطيع التوسط بين ب ي د وتركيا لتكشف دون حياء عن “عورتها” من خلال تصريح يعترف بدعمها لتنظيم بي كا كا الذي نعتته حتى هذه اللحظة بالتنظيم الإرهابي. وهذا التصريح ليس من النوع الذي يسهل تقبله، فوقاحة عَرض باريس الوساطة بين تركيا وتنظيم إرهابي يعتبر – في الواقع – جرأة تجبرنا على الرجوع عن الطريق الذي تسير فيه مع ب ي د/ي ب ك حتى اليوم. وإلا فإن فرنسا ليست دولة محرومة من العقل الدبلوماسي المحروم من القدرة على تثمين معنى تصريح كهذا.

إن كلَّ شيء متعلقٌ بالوعد الذي قدمه الرئيس الفرنسي ماكرون لتنظيم ب ي د/ي ب ك. فلا يخفي على أحدٍ، القاعدة التي أسقطت فرنسا في نقطة تنتهك فيها جميع اتفاقياتها الدبلوماسية وقانون مكافحة الإرهاب بسبب وعد قدمته إلى تنظيم إرهابي؛ إذ إن التعاون من تنظيم إرهابي ينزل بعقل الدولة إلى مستوى التنظيم الإرهابي.

ومن الممكن أن يكون تصريح وزير الخارجية جاويش أوغلو بشان المقارنة بداعش هو أفضل رد على عرض الوساطة من فرنسا؛ إذ قال: “ماذا سيكون رد فعلهم لو عرضت تركيا استضافة عناصر تنظيم داعش الإرهابي الذي خضّب شوارع فرنسا بالدماء في مقر رئاسة الجمهورية في أنقرة للوساطة بينه وبين باريس؟”

إن تلك الصورة المهترئة هي صورة العالم الغربي الذي يبدو في الظاهر عصري وديمقراطي، وهي الصورة الأولى التي كانت وراء الأقنعة التي أسقطتها تركيا أولا بعملية درع الفرات، ثم بعملية غصن الزيتون. وسنرى ما المزيد الذي سنشاهده لاحقا؟

ياسين اكتاي – يني شفق

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.