لا لوم على تركيا إذا ضاعت فرصة استثمار غاز شرق المتوسط

يعد وجود تركيا في شرق البحر المتوسط أمراً مهماً جغرافياً واستراتيجياً، ووجودها هناك قادر على تغيير علاقات الطاقة غير المتكافئة الدولية والإقليمية.

لطالما لعبت الطاقة دوراً كبيراً في الشرق الأوسط، كما تفعل اليوم. ارتفعت حرارة مياه الشرق الأوسط مرة أخرى مع نشر الولايات المتحدة سفينة هجوم برمائية وبطارية صواريخ باتريوت لتعزيز حاملة طائراتها وقاذفاتها من طراز ب-52 التي أرسلتها بالفعل إلى الخليج من أجل زيادة الضغط على إيران عقب فرض عقوبات على صادرات النفط. بينما نراقب جميعاً العدوان بين مضيقي هرمز وباب المندب، والتهديدات المتبادلة بين واشنطن وطهران أيضاً. وفي الشمال، هناك نزاع آخر طويل الأمد حول موارد الغاز الطبيعي في شرق البحر المتوسط. لا يزال مستمراً.

مرت تسع سنوات على اكتشاف حقل ضخم للغاز الطبيعي قبالة شواطئ ميناء حيفا في إسرائيل. ويقدر حجم حقل ليفياثان بأكثر من 600 مليار متر مكعب من الغاز، وفق معطيات شركة نوبل إنيرجي، الشركة الأمريكية التي اكتشفت الحقل عام 2010. احتياطيات إسرائيل من الغاز ليست كبيرة مقارنة بالكميات العالمية، ومع ذلك ، فإن الأرقام المرتبطة بحقل ليفياثان يمكن أن تغير قواعد اللعبة في إسرائيل.

من ناحية أخرى، تم العثور على حقول أخرى في نفس الحوض مثل حقل أفروديت بالقرب من قبرص الرومية. ومع ذلك، تم تطوير حقل غاز صغير واحد فقط، حتى الآن، هو تمار الذي يزود قطاع الطاقة الإسرائيلي حالياً. يحتوي حقل تمار على حوالي 80 مليار متر مكعب فقط من الغاز، لكنه يوفر حوالي 60 في المائة من الكهرباء في إسرائيل ويبدو أنه سيفعل ذلك لسنوات. لذلك، إذا بدأ ليفياثان في العمل، فسيجعل من إسرائيل بلداً مصدراً للغاز بامتياز.

هناك ما هو أكثر للاكتشاف:

يعتقد خبراء الطاقة اليوم أن هناك المزيد من الغاز في انتظار اكتشافه في شرق البحر المتوسط ​​على طول سواحل غزة ولبنان وسيناء في الجنوب وقبرص الرومية وجمهورية شمال قبرص التركية وسوريا في الشمال. ومع ذلك ، بصرف النظر عن تمار، فإن الغاز المذكور قيد الانتظار، وتم تجميد المزيد من التنقيب لأنه لا يوجد طرق تصدير لهذه الكميات الهائلة من الغاز، التي يتجاوز حجمها الاحتياجات المحلية للبلدان المعنية بأضعاف المرات.

حتى إذا نجحت إسرائيل في تصدير الغاز الطبيعي من ليفياثان، فعليها العمل مع دول المنطقة الأخرى لتوصيله إلى أوروبا. اليوم يبدو أنه لا يوجد لديها خيار آخر غير قبرص الرومية ومصر. وفقاً لتقارير العام الماضي، توصلت إسرائيل وقبرص الرومية واليونان وإيطاليا، إلى اتفاق لمد خط أنابيب يربط احتياطيات إسرائيل من الغاز بالدول الثلاث، في مشروع كبير، وهو مشروع شرق البحر المتوسط، الذي سيوفر الغاز من شرق المتوسط ​​إلى أوروبا. أوروبا أيضاً لديها مصلحة في رؤية تطور مشروع شرق المتوسط، مما سيمكّنها من تنويع موارد الطاقة وتقليل اعتمادها على الغاز الروسي.

ومع ذلك، تبلغ تكلفة بناء مشروع شرق المتوسط ​، وفقاً للتقديرات الأولية، 7 مليارات دولار. تعمل نيقوسيا أيضاً على ربط خط الأنابيب عبر حقل أفروديت بمرفق للغاز الطبيعي المسال في مصر، والذي سيكلف أيضاً حوالي مليار دولار. وعلينا أن نلاحظ أنه من المتوقع أن يتم تمويل هذا المشروع الكبير من الاتحاد الأوروبي.

رغم أن التكاليف المادية مدعومة من الحكومتين اليونانية والإيطالية، ناهيك عن أن كلاهما معروف أيضاً بانتقاده الشديد لبروكسل، إلا أن التكلفة مرتفعة جداً. إن إنشاء مصنع لمعالجة الغاز الطبيعي المسال وشحن الموارد ليس فقط إلى أوروبا ولكن أيضاً للأسواق النامية في آسيا، من أجل تعويض تكلفة رأس المال هو أحد الخيارات. لكن حتى لو تم ذلك، فسيكون ذلك غير تنافسي في عالم لا يوجد فيه نقص في إمدادات الغاز.

نقطة العبور هي تركيا:

لا بد أن هذه الحقيقة مزعجة للغاية، فتركيا هي نقطة العبور الواضحة والأكثر فاعلية من حيث التكلفة لكل هذا الغاز لأنها تتمتع بموقع جغرافي قريب جداً من الحقول المعنية، ولديها بالفعل شبكة خطوط أنابيب محلية يمكنها نقل الغاز إلى أوروبا. من خلال خط أنابيب بحري إلى تركيا وجمع الموارد من جميع الحقول على طول الطريق، يمكن تنفيذ مشروع غاز شرق المتوسط. ومع ذلك، تم بالفعل استبعاد هذا الخيار بسبب الخلافات الحالية. إن سياسات إسرائيل الوحشية التي تهدف إلى محو الفلسطينيين، والنزاع المستمر بين القبارصة الروم ووجمهورية شمال قبرص التركية، هي أولى العقبات التي تحول دون حدوث مثل هذا الحل.

بالإضافة إلى ذلك، تعد القاهرة العضو الثالث في فريق أبو ظبي والرياض، اللتين تختلفان مع أنقرة حول العديد من القضايا الإقليمية. في حين أن جميع تلك البلدان تحاول نصب المكائد لتركيا منذ فترة طويلة، كيف يمكن أن تتوقع مثل هذا الدعم من أنقرة؟

نظراً لأن موارد الطاقة لا تقتصر فقط على جنوب وشرق قبرص، فقد بدأت أنقرة أيضاً في إجراء عمليات الحفر في شرق البحر المتوسط. بدأت تركيا أول عملية حفر في أعماق البحار قبالة شواطئ أنطاليا على ساحل تركيا الجنوبي المتوسطي في أكتوبر 2018 مع أول سفينة حفر، الفاتح. بدأت سفينة الفاتح حفر بئرها الثاني هذا الشهر. تم إرسال فاتح من ميناء أنطاليا في 3 مايو مع ثلاث سفن دعم وفرقاطة، باتجاه المنطقة الاقتصادية الحصرية لتركيا، غرب قبرص، وستقوم الفاتح بأنشطة استكشافية في خط الطول 31 29 25 شرقاً، وخط العرض 34 55 32، وفقاً لتلكس ملاحي صادر عن أنقرة. وبالطبع، فقد انهالت كل حمم الجحيم بعد ذلك، وبدأت حرب كلامية بين العديد من الدول.

قلق القبارصة الروم:

أصدر القبارصة الروم بياناً سريعاً، وادّعوا أن العملية التركية ستتعدى على منطقة قبرص الرومية الحصرية. كانت ردود فعل الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي سريعةً أيضاً. فأعربوا عن “قلقهم العميق” بشأن خطط تركيا لعمليات الحفر البحرية في منطقة تدّعي قبرص الرومية بأنها منطقة اقتصادية خالصة لها، مما يضيف قضية شرق المتوسط ​​إلى قائمة توتراتهم المستمرة مع أنقرة. كما أصدرت مصر بياناً وحذرت تركيا من أنشطة الحفر في مياه قبرص.

وزارة الخارجية التركية ردّت على الاتحاد الأوروبي، وقالت إن “أنشطة تركيا المتعلقة بالهيدروكربونات في منطقة شرق البحر المتوسط ​​تستند إلى حقوقها المشروعة الناشئة عن القانون الدولي”. وردّت أنقرة أيضاً على الولايات المتحدة، قائلةً: “إن البيان الأمريكي الذي يقول بأن تركيا تنوي التنقيب في منطقة مزعومة زيفاً لقبرص الرومية، أغفل أن القبارصة الروم أجازوا لأنفسهم حقاً قانونياً في المنطقة، متجاهلين القانون الدولي”.

تمتلك تركيا أطول شريط ساحلي في المنطقة، وعليها أن تحمي حقوقها ومصالحها، وكذلك حقوق القبارصة الأتراك. نظراً لأن النزاعات الحالية جزء من النزاعات الأوسع نطاقاً، فإن موقف الإدارة القبرصية الرومية الثابت لا يعد شيئاً جديداً بالنسبة لتركيا. وبغض النظر عن حقوق القبارصة الأتراك، الذين يشاركون في ملكية قبرص، ترفض قبرص الرومية كل اقتراح للتعاون وتصر على أنشطتها الانفرادية في المنطقة منذ عقود، كما هي اليوم.

في تجاهل لتهديدات قبرص الرومية وحلفائها، ستنضم ياووز، وهي ثاني سفينة حفر تركية، إلى الفاتح قريباً لتوسيع استكشافات الهيدروكربون لتركيا في شرق البحر المتوسط. تقوم أول سفينة اهتزازية في تركيا، والمسماة خير الدين بربروس، بإجراء دراسات استقصائية في المنطقة منذ عام 2013. يمكن أن تغضب قبرص الرومية بقدر ما تريد، لكن لا هي ولا اليونان يمكنها مواجهة تركيا عسكرياً إذا وصلت الأمور إلى هذه النقطة. يتجنب الناتو نزاعاً كبيراً آخر بين عضوين من أعضائه، هما تركيا واليونان مرة أخرى. ولا يمكن للاتحاد الأوروبي تجاوز التهديدات، خاصةً لأن لديه مشاكله الخاصة، والتي لا يمكن حلها إلا بمساعدة تركيا مثل الخطر المحتمل لتدفق جديد للاجئين. بالإضافة إلى ذلك، اعتادت أنقرة على نهج المحادثات الصعبة لواشنطن، لكنها تعرف أن إدارة ترامب ستتفادى تصعيد التوتر، لأنها تحتاج إلى نجاح سياستها ضد إيران، بشأن فرض عقوبات على النفط دون ارتفاع أسعار النفط.

يدعم مسؤولو الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي إسرائيل وقبرص الرومية ومصر في تطوير احتياطيات الغاز، وذلك للحد من الوجود التركي المتزايد في شرق البحر المتوسط، لكنهم يريدون أيضاً مواجهة النفوذ الروسي المتزايد. إنهم على حق في أن يكونوا خائفين لأن تركيا لن تتخلى عن إثبات وجودها، ولن تسمح روسيا للآخرين بمنع سيطرتها في سوق الطاقة الأوروبي. من المفارقات أن حلفاء تركيا الغربيين، جعلوا روسيا وتركيا تشتركان في نفس المصالح، فيما يخص الجغرافيا السياسية المتعلقة بالطاقة، خاصة بعد خط أنابيب “تورك ستريم”.

علاقات الطاقة مع الكرملين:

ذات مرة كانت تركيا منافسة لروسيا في سوق الطاقة، وهذا سبّب مشكلة بالنسبة لروسيا، فالرئيس فلاديمير بوتين لا يريد أن يفقد دور المهيمن في سوق النفط والغاز. كان مشروع خط أنابيب نابوكو بمثابة صداع لروسيا، وكذلك خط أنابيب الغاز عبر الأناضول “تاناب”، وخط الأنابيب عبر الأدرياتيكي “تاب”. إنما بفضل الضيق في أفق التفكير للزعماء الغربيين، لم يعد البلدان خصمان بل يتقاسمون نفس المصالح. تركيا فقيرة في احتياطي النفط والغاز الطبيعي، لكن موقعها الجغرافي الاستراتيجي يمكّنها أن تصبح مركزاً لنقل الطاقة بين الشرق الأوسط وأوروبا. إن العديد من مشاريع خطوط الأنابيب العابرة لتركيا، والتي ستنقل النفط والغاز الطبيعي من آسيا الوسطى والشرق الأوسط إلى أوروبا عبر تركيا، جذابة. ويبدو أن الفائز هو روسيا حيث أساء كلاً من الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة التعامل مع كل شيء تقريباً في الشرق الأوسط.

تم الانتهاء من الجزء البحري من خط الانابيب “تورك ستريم” الذي يبلغ طوله 1800 كيلومتر لتزويد تركيا بالغاز الطبيعي في نوفمبر 2018. الجزء البحري منه هو خط أنابيب يبلغ طوله 930 كيلومتراً، يمتد على طول قاع البحر الأسود، وصولاً إلى سواحل تركيا، يبلغ طول الجزء الذي يمتد منه في الأراضي التركية 180 كيلومتراً، وصولاً إلى حدود تركيا والدول المجاورة. باختصار، سيبقى كل شيء كما هو الآن. ستقوم روسيا بإمداد الغاز إلى أوروبا، وستظل أوروبا معتمدة على الغاز من روسيا، لكن هذه المرة ستحصل على بعضه من خلال القناة التركية، والتي من المقرر أن تكتمل في نهاية عام 2019. وهو ما سيجعل الاتحاد الأوروبي يعتمد جزئياً على تركيا أيضاً.

إنه لأمر محزن بالفعل بالنسبة للاتحاد الأوروبي. فلو أنهم لم يرفعوا حدة التوتر مع تركيا في العامين الأخيرين، لما كان غاز شرق البحر المتوسط، ليظل متجاهلاً و​​غير مستغل، وغير مستكشفاً حتى اليوم، ولكانوا بالفعل قد قاموا بتنويع مواردهم من الغاز. ولو انهم لم يختاروا بين القبارصة الروم وجمهورية شمال قبرص التركية، وحاولوا مساعدة تركيا على حل النزاع المستمر منذ عقود حول الجزيرة، واحترام حقوق القبارصة الأتراك، لم يكونوا عالقين حتى الآن بالغاز الروسي. لا يمكن أن تتغير هذه الديناميكيات إلا إذا بدأت الإمدادات منخفضة التكلفة من إيران أو أذربيجان أو تركمانستان. وطريق العرض هذا يأتي مرة أخرى عبر تركيا.

الاهتمام بخط “تورك ستريم”:

تأمل بلغاريا اليوم أن يذهب الفرع الثاني من قناة “تورك ستريم” إلى أوروبا عبر أراضيها، ومنها إلى صربيا ، وهنغاريا ، ثم سلوفاكيا. كان لليونان أيضاً مصلحة في “تورك ستريم” على مدى عقود، حيث لا يمكنها الالتزام التام بمشروع شرق المتوسط الذي قد لا يحدث أبداً. في نوفمبر 2018، في قمة سالونيك الثالثة لقادة دول البلقان، أُعلن صراحة أن أثينا كانت تضغط في بروكسل من أجل مشروع يمتد عبر قناة “تورك ستريم” إلى أوروبا. بالإضافة إلى ذلك، تهتم اليونان بشدة بخط “تاب”، أحد فروع ممر الغاز الجنوبي، إلى جانب “تاناب”. من المتوقع أن تقوم شركة “تاب”، التي تعد مهمة جداً بالنسبة لليونان، وفقاً لأليكسيس تسيبراس رئيس وزراء اليونان، بتوفير الغاز من حقول شاه دنيز وشاه دنيز 2، إلى أوروبا عبر اليونان وألبانيا وإيطاليا.

قرأت هذا الأسبوع عدة مقالات في الصحف والبوابات الأوروبية والإسرائيلية، تدعي أن المنطقة بأسرها ستكون أكثر فقراً إذا استمرت تركيا في عدم نقل الغاز الإسرائيلي إلى أوروبا، وتنفيذ أنشطة استكشاف الغاز الخاصة بها. لكن يبدو الأمر كما لو أن أوروبا قد أضاعت فرصة رغم أنها تحاول أن تبقى هادئة. روسيا الآن في شرق المتوسط، وستنقل تركيا الغاز الروسي إلى أوروبا قريباً. رفعت الأقلام وجفت الصحف.

.

مروة شبنام أوروتشبواسطة/ مروة شبنام أوروتش

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.