انتخابات إسطنبول قراءة في الأسباب والانعكاسات

أسفرت انتخابات بلدية إسطنبول الكبرى المعادة يوم أمس الأحد عن فوز مرشح حزب الشعب الجمهوري وتحالف الأمة أكرم إمام أوغلو بالرئاسة، متقدماً على باقي المنافسين وفي مقدمتهم خصمه الأقوى مرشح حزب العدالة والتنمية وتحالف الجمهور بن علي يلدريم.

حصل إمام أوغلو على 4 ملايين 741 ألفاً و 885 صوتاً بواقع 54% من أصوات ناخبي المدينة/المحافظة في مقابل 3 ملايين و 935 ألفاً و 429 صوتاً بواقع 45% من الأصوات ليلدريم، وفق النتائج الأولية غير الرسمية.

وفق هذه النتائج، وبالمقارنة مع الجولة الأولى الاعتيادية، فقد رفع إمام أوغلو نصيبه من الأصوات بأكثر من 5% وبواقع حوالي 530 ألف صوت، في مقابل تراجع نصيب يلدريم بنسبة 3.5% وأكثر من 230 ألف صوت، ما وسّع الفارق بينهما من حوالي 13 ألف صوت إلى أكثر من 806 ألفاً.

لا تبدو هذه الأرقام نتيجة مباشرة لمفاضلة الناخبين بين المرشخَيْن الرئيسين فقط وإنما لأسباب أعمق وأعقد من ذلك. ذلك أن المرشحَيْن نفسهما تواجها قبل أقل من 3 أشهر وكان الفارق بينهما أقل بحوالي 60 ضعفاً من الحالي، لا سيما وأن إمام أوغلو لم يقدم أداء استثنائياً خلال الحملة الانتخابية أو تفوقاً كاسحاً على منافسه.

كما أن نتائج البلديات الفرعية أو الأقضية الـ39 في إسطنبول تظهر بوضوح أن يلدريم قد تراجع فيها جميعها وأن إمام أوغلو قد تقدم فيها جميعها بلا استثناء، ما يجعل الأمر – مجدداً – أكبر من مجرد مفاضلة بين مرشحين.

نتيجة انتخابات الإعادة هي محصلة مباشرة لتقييم ناخبي إسطنبول لقرار إلغاء الانتخابات وإعادتها في المدينة، وكيفية تفاعل الأحزاب السياسية المختلفة مع الأمر منذ تلك اللحظة قولاً وفعلاً، فضلاً عن الحملات الانتخابية وخطابها.

وعليه، يمكن القول بسهولة إن شريحة واسعة من الناخبين لم يقتنعوا بقرار الإعادة، ما يعني أنهم قبلوا سردية “المظلومية” من إمام أوغلو وليس من يلدريم بعد أن استخدمها كلاهما. هذا التصويت المفاجئ، بهذا المعنى، هو رسالة احتجاج واضحة على طلب العدالة والتنمية إعادة الانتخابات وقبول اللجنة العليا للانتخابات.

الدلالة الثانية أن التغييرات الكثيرة التي جاء بها العدالة والتنمية في حملة الإعادة بالاختلاف عن الجولة الأولى لم تلق صدى كافياً لدى المقصودين بها والمستهدفين منها، وتحديداً الناخب الكردي وأنصار حزب السعادة والعاتبين/المتحفظين من أبناء العدالة والتنمية.

فقد غير العدالة والتنمية خطاب “الخطر الوجودي” على تركيا للحديث عن “تحالف تركيا” الذي يضم الجميع تحته، ومن مهاجمة حزب السعادة إلى مغازلة أنصاره وكوادره بزيارة من يلدريم وتصريحات اعتذارية عديدة، ومن قيادة اردوغان للحملة إلى تركه الساحة ليلدريم وبرامجه.

كما أن رسالة أوجلان من سجنه لأنصار حزب الشعوب الديمقراطي بالتزام الحياد في الانتخابات اعتبرتْ مناورة من الحكومة والحزب الحاكم انقلبت 180 درجة على خطاب التحذير من الشعوب الديمقراطي ودعمه الضمني لتحالف الأمة المعارض.

هذه المناورة تحديداً، والتي لا يبدو أنها أدت إلى مقاطعة من أنصار الشعوب الديمقراطي للانتخابات، تبدو وقد أثرت سلباً على حظوظ يلدريم، إذ ليس من الصعب تلمس وقعها السلبي على أبناء الحركة القومية حليف العدالة والتنمية وبين بعض أنصار الأخير كذلك.

ثبات نسبة المشاركة في الاقتراع، بواقع 84.4% مقابل 83.9% في السابقة، والذي يظهر عدم تجاوب “الناخب الكردي” مع نداء أوجلان، هو نفسه مؤشر عدم قدرة العدالة والتنمية كذلك على الحشد بشكل استثنائي في الإعادة.

يضاف كل ذلك إلى اختيار يلدريم كمرشح في المقام الأول ومدى إقناعه لكوادر العدالة والتنمية وأنصاره والشارع التركي في مقابل صورة إمام أوغلو الشاب المتحمس الذي يجيد مخاطبة الشباب ووسائل التواصل الاجتماعي، وهو عامل كان حاضراً في الجولة الأولى بكل الأحوال لكنه بات أكثر وضوحاً في الإعادة على هامش الأسباب سالفة الذكر.

في الخلاصة إذن، وبالنظر للقرائن السابقة والنتائج التفصيلية، فالنتيجة تعبر عن رفض شريحة واسعة من الناخبين لقرار إعادة الانتخابات وعدم اقتناعهم تماماً برسائل التغيير التي قدمها العدالة والتنمية خلال الحملة الانتخابية.

يدفع كل ذلك للقول إن العدالة والتنمية قد خسر جولة الإعادة ولكن لأسباب لا تتعلق بالضرورة وبشكل مباشر ببرنامجه أو شعبيته، ما يعني أن التحليلات التي سارعت إلى التبشير بنهاية عهده كانت متسرعة إلى حد كبير، على الأقل باعتبار أنها كانت انتخابات بلدية وليست رئاسية أو برلمانية (رغم دلالاتها وأهميتها السياسية) ومحدودة بإسطنبول وليست عامة.

بهذا المعنى، لن يكون هناك ارتدادات كبيرة على الحياة السياسية في تركيا داخلياً وخارجياً ولا على النظام السياسي وتوازناته، فضلاً عن عمل البرلمان والحكومة، اللهم إلا من زاوية تعديل وزاري محتمل.

لكن في المقابل، ستكون لهذه النتيجة تداعياتها على الحياة الحزبية في البلاد، وخصوصاً حزبي الشعب الجمهوري والعدالة والتنمية.

فزعيم المعارضة كمال قليجدار أوغلو يغلق ملف الصراع على كرسي الرئاسة في حزبه حتى إشعار آخر بهذه النتيجة المضافة للسابقة، خصوصاً وأن إمام أوغلو كان خياره الشخصي على عكس رغبة مجلس الحزب.

الأهم من ذلك أن الانتصار المتكرر للمعارضة وبهذه النتيجة المريحة سيعطيها دفعة معنوية كبيرة لخطاب أكثر ندية مع الرئيس اردوغان والعدالة والتنمية من جهة؛ وسيقنعها بمزيد من التعاون والتنسيق في المستقبل فيما بينها من جهة أخرى.

وهو أمر قد يدفعها لاحقاً، وليس مباشرة، للمناداة بتبكير الانتخابات الرئاسية والبرلمانية قبل 2023 إذا ما استجدت ظروف تدعم هذا التوجه وترفع من فرصها.

أما التداعيات الأهم فستكون داخل حزب العدالة والتنمية، وعلى عدة صعد:

فهناك أولاً جرد حساب نتائج الانتخابات وسير الحملة الانتخابية وتحديد أسباب الخسارة ومسببيها وما ينبني على ذلك.

فقد بدأت مع إعلان النتيجة مطالبات بالحساب والعقاب وليس فقط المراجعات داخل أطر الحزب خرج بعضها للعلن من سياسيين وإعلاميين محسوبين على الحزب منهم نواب حاليون في البرلمان.

كما أن حزب العدالة سيكون مطالباً بتقديم رسالة تغيير وتطوير كتجاوب منه مع النتيجة تكون أكثر إقناعاً للناخب من سابقاتها، وبالتالي يمكن في هذا الإطار توقع مؤتمر استثنائي للحزب يشمل تغييرات في بعض أطره القيادية وخصوصاً في إسطنبول و/أو تعديل وزاري يشمل بعض الحقائب، فضلاً عن رسائل تتعلق بالخطاب الحزبي والحكومي والتعامل مع الآخر.

وفي سياق موازٍ، يمكن القول إن نتيجة البارحة ستشجع شخصيات قيادية سابقة في الحزب مثل داود أوغلو وكول وباباجان على تفعيل خططهم المرتبطة بإنشاء حزب أو أحزاب سياسية تنافس العدالة والتنمية، إن لم تشمل عملية التغيير داخل الأخير مصالحات أو تسويات تشملهم.

وعليه، ختاماً، سيكون لهذه الخسارة الثقيلة والفارق الكبير عن الجولة الأولى مفاعيل داخل حزب العدالة والتنمية أكثر من غيره، وسيكون مطالباً بالتجاوب مع هذه النتيجة التي – إضافة لعوامل وأسباب أخرى – تضعه اليوم أمام مفترق طرق حقيقي.

.

بواسطة/ سعيد الحاج 

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.