“غيزي” في تركيا و”تمرد” في مصر الرسالة الموجهة لأردوغان عبر مرسي

لقد عجزوا عن المخاطرة بإعدام محمد مرسي، كما عجزوا عن المخاطرة بقتله في السجن داخل حبسه الانفرادي بعيدا عن الأعين والإعلان عن وفاته من داخل السجن. إنهم خشوا النتائج المحتملة لقتله بكلتا الطريقتين بعدما أسروه على مدار ست سنوات بطريقة لا تليق سوى بتنظيم إرهابي لا يعرف حدودا ولا قواعد. وبطبيعة الحال ما كان السيسي ليخشى أي لوم من الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي طالما حاز دعمهم المبني على النفاق. ولهذا فقد كان قادرا على فعل أي شيء دون أن يخشى أحدا، فلا يهمه لوم أحد، ويكفيه دعم الحلفاء.

لقد خافوا من أن يتسبب قتلهم مرسي بهذه الطريقة يمكن أن يحوله إلى بطل ورمز قوي للتمرد والثورة على نظامهم الانقلابي. ولأنهم لم يجدوا طريقا كذلك لإعدامه، فقد قتلوه بشكل ممنهج ومجهز مسبقا ليظهر للجميع وكأن أجله قد حان ومات ميتة طبيعية.

غير أن قتلهم إياه بهذه الطريقة، غير آبهين بأحد، جعلهم قريبين أكثر من أي وقت مما يخشونه، بالضبط كما حدث في جريمة خاشقجي؛ إذ أضحى مرسي رمزا لكل أنواع مقاومة الاستبداد في شتى بقاع العالم، ليخرج عن عباءة كونه بطلا فقط بين أنصار جماعته أو حزبه.

لقد منعوا في القاهرة حضور حتى أهالي قريته جنازته. بيد أن صلاة الجنازة على الغائب التي صليت من أجله جمعت عشرات الملايين من المسلمين في مختلف دول العالم وفي مقدمتها داخل المسجد الأقصى وفي تركيا. ولقد كشفت هذه الأحداث النقاب كذلك عن كل الأبعاد غير الإنسانية لنظام الانقلاب الغاشم في مصر ومن يدعمونه ومن يغضون الطرف عن ممارسته. فكل ما خافوا منه مما يمثله مرسي لا يزال حيا باقيا إلى الآن.

وفي الواقع فإن كل ما كان يمثله مرسي يمثله الرئيس التركي أردوغان وأكثر. فأردوغان هو مرسي الذي فشلوا بشتى الطرق في إسقاطه، وأما مرسي فهو أردوغان الذي نجحوا في إسقاطه في مصر عام 2013. ولهذا فإنهم يعلمون جيدا من أين ولحساب من يتكلم من يذكّرون أردوغان باستمرار بمرسي بصفته تهديدا. ولا يستند هذا الأمر إلى علاقة إجبارية يلتزم بها أردوغان.

وإذا عدنا إلى بداية الأحداث، سنجد أن حركة تمرد التي أسقطت مرسي كانت تواصل كلامها واستعداداتها ومساعيها لإقناع الرأي العام طوال شهر يونيو 2013 الذي شهد استمرار أحداث غيزي بارك في تركيا بكامل شدتها. ولقد سنحت لي الفرصة آنذاك لمتابعة حركة تمرد في مصر وأحداث غيزي بارك في تركيا عن كثب. وبينما كنت في زيارة للقاهرة قلت إن هدف هذه الحركة هو تنفيذ انقلاب، فاعترض بشدة بعض الأسماء المحسوبة على النخبة المثقفة من الليبراليين الذين كنت أعرفهم وكانوا يدعمون حركة تمرد، فقالوا “لا يمكن أن يحدث انقلاب في مصر، لأن الجيش لا يمكن أن يعارض شعبه”. بل إنهم وجهوا أصابع الاتهام إلى من يتحدثون عن انقلاب بأن ما يقولونه إنما هو حجج واهية لجأ إليها أنصار مرسي لدفع الانتقادات.

وخلال البرامج التلفزيونية والمقابلات الصحفية التي أجريتها في القاهرة في تلك الأيام استمعت باندهاش كبير الحجج التي ساقوها بقولهم إن الذين صوتوا لمرسي في الانتخابات هم أناس عاديون، وإن استواء الكفة بين أصوات المتعلمين وأصوات الجهلة يعتبر إحدى معضلات الديمقراطية. وبكل تأكيد كان لي ردي عليهم عندما مازحت بقولي “أرى أنا أيضا أنه يجب ألا يستوي صوت راعي الغنم بصوت أستاذ الجامعة الذي يعتبر نفسه فوق الشعب. ولهذا ينبغي أن تكون هناك إمكانية لإلغاء صوت أستاذ الجامعة هذا”. لكني أخبرتهم كذلك بأن هذه الكلام هو الكلام ذاته الذين يردده كذلك الانقلابيون.

ولم يمر سوى شهر واحد حتى شهدنا هذا الكلام وهو يشكل أحجار الطريق الذي سيمر عبره الانقلاب بسرعة. وكنت أرى بشكل حي ومقارن أننا أمام محاولة لتمهيد الطريق بأحجار مماثلة في تركيا من خلال ما حدث في غيزي بارك من خلال الكلام ذاته والدعاية عينها. بل حتى إنني طرحت سؤالا في إحدى مقالاتي قلت فيه “هل يسير الطريق من ميدان تقسيم إلى منطقة حربيه؟” (في إشارة إلى احتمالية أن تؤدي أحداث غيزي بارك إلى انقلاب عسكري)، وحينها تلقت ردود أفعال بدت وكأنها مستوردة من ميدان التحرير الذي استولى عليه أنصار تمرد بالقاهرة. وربما ترجموا هذا الكلام إلى اللغة التركية ليقولوا فيما معناه “عن أي انقلاب تتحدث يا صديقي؟ وهل يحدث انقلاب في تركيا في هذا العصر؟”

بل إن هناك من كانوا يشعر بالرغبة في الضحك بصوت عال ما إن يسمع كلمة انقلاب في تركيا في هذا العصر. بيد أن الهدف كان واحدا، فهم فقط فشلوا في تركيا فيما نجحوا فيه في مصر. فبعد أن رأينا في نموذج مصر أن هذا العصر يمكن أن يشهد انقلاب بشكل عادي، رأينا هذا الأمر مرات عديدة في تركيا كذلك. فهناك البعض في هذا العالم ليس لديهم أي ميل أو رغبة في أن تكون مكتسبات الديمقراطية والتطور سببا في منع وقوع الانقلابات في أي بقعة من بقاع العالم الإسلامي. ولقد رأينا في أحداث غيزي بارك و17-25 ديسمبر و15 يوليو أن علاقة تركيا بالعالم وعضويتها بالحلف الناتو وغير ذلك من الأمور التي حاولوا خداعنا بها لم تحم تركيا من محاولات الانقلابات.

ولم يحمينا من الانقلابات سوى المواقف الوطنية الفريدة التي ظهر بها الشعب التركي في مواجهة التدخلات الخارجية والانقلابات والاحتلال. وعلى العكس مما يتخيله البعض، فإن عضوية الناتو وعلاقتنا بالعالم الغربي هي التي جلبت الخراب إلى ديارنا والانقلابات إلى بلادنا.

لقد كان هدف أحداث غيزي بارك في صيف 2013 هو إسقاط مرسي الذي كان يبدو أنه سيكون نسخة ثانية من أردوغان، وكذلك إسقاط أردوغان نفسه، الذي يعتبر مصدر الإلهام الحقيقي لمرسي، حتى لا يظهر على الساحة شخص آخر يشبهه. لقد كان أردوغان يمثل معضلة بما فيه الكفاية بالنسبة لهم، ولهذا فما كانوا ليتحملوا ظهور أردوغان ثان.

أسقطوا مرسي، لكن فشلوا في إسقاط أردوغان، لكنهم من ذلك اليوم لم يبخلوا بأي جهد لإسقاطه والإضرار بصورته وإضعاف سلطته. ومن الطبيعي للغاية طرح هذه المسألة للنقاش بكل عناصرها بسبب مقتل مرسي. لكنهم كلما طرحوا هذه المسألة بطريقتهم الخاصة يكشفون مرارا وتكرارا – في الوقت ذاته – عن خيانتهم وخداعهم ونفاقهم وجبنهم.

يظنون أنهم قتلوا مرسي، لكن لا يمكن لشخص يخشون جنازته أن يكون قد قتل. اعتقدوا أنهم قتلوه، لكن موته سيواصل أن يكون مصدر إلهام أقوى لموسى الذي سيدمر عرش نظامهم الفرعوني.

لقد فشلوا في إسقاط أردوغان منذ اليوم الأول، وهم اليوم يطمحون في بدء مهمتهم انطلاقا من إسطنبول التي يحكمها منذ 25 عاما. فكلهم يحملون الطموح ذاته.

وباختصار فإن بلدية إسطنبول ليست عبارة فقط عن بلدية، كما أن أصواتنا ليست قاصرة على اليوم وحسب. وإذا خاصمنا هذا وعادينا ذاك، فسيخرج من الميدان الذي نبتعد عنه اليوم وطن نطرد منه جميعا مع كل من خاصمناه وعاديناه، وحينها لن يكون هناك أي مسألة نتخاصم أو نتعادى بشأنها. لا تقل هذا مستحيل، فانظر إلى مصر وشاهد ما حدث بها.

تعتبر إسطنبول هي المدينة الرابعة المقدسة في الإسلام بعد مكة والمدينة والقدس. وإذا كانت المدن الثلاث قد وقعت، فإن نجاتها جميعا تبدأ من إسطنبول. لكن إذا سقطت إسطنبول، فللأسف فإن انتظار أن يعلو صوت من مكان آخر سيكون بلا جدوى.

.

ياسين اكتايبواسطة/ياسين اكتاي

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.