بعد أن صدر قرار بحل حزب الفضيلة الإسلامي، الذي كان يترأسه الأستاذ نجم الدين أربكان، في حزيران/يونيو 2001 من قبل محكمة الدستور التركية، وقف مجموعة من الشباب وقفة تأمل لتاريخ تعامل الدولة التركية مع الأحزاب التي أنشأها أستاذهم أربكان، وكيف كان مصيرها، وكانت تلك المجموعة معروفة داخل الحزب بمجموعة المجددين. وضع المجددون أيديهم على بعض المآخذ والمثالب، التي وقع فيها استاذهم، وبدأت حينها تتبلور فكرة حزب العدالة والتنمية مستفيدة من تجارب الأحزاب التي انشأها أربكان ومقدمة نفسها للمجتمع التركي بالصورة التي يرغب فيها ومتلافية فخاخ الدستور، وضغوط الجيش حامي العلمانية فيه، وأسباب سقوط حزب النظام الوطني، وحزب السلامة الوطني وحزب الرفاه الوطني وأخيرا حزب الفضيلة الذي انشقوا عنه.

وعلى الرغم من أن حزب العدالة والتنمية لا يصنف نفسه إسلاميا، إلا أنه مع ذلك يشكل التيار المحافظ وإن كان أقرب إلى الإسلاميين المعتدلين، فهو حزب يحترم الحريات الدينية والفكرية ويبني سياساته على التسامح والحوار، وهو ما عبر عنه الرئيس رجب طيب أردوغان في إحدى مقابلاته التلفزيونية، من أن حزبه يمثل العلمانية الحقيقية التي تحترم كل المكونات والأيدولوجيات ولا تصادر فكرا، وتسعى من خلال هذا النهج إلى إصلاح اقتصادي يشارك فيه الجميع، فالمواطن عندهم في المقام الأول والرافعة الاقتصادية هي وسيلة الحزب لإرضائه.

18 عاما من عمر الحزب مرت، لم يخسر فيها استحقاقا انتخابيا أو استفتاء، شكل الحكومات منفردا منذ 2002 إلى اليوم، حتى بعد أن أقر النظام الرئاسي فلا يزال الحزب يتمتع بأغلبية معقولة بعد أن أصبح الرئيس هو رأس السلطة التنفيذية ومسير أمور البلاد فيها بمعاونة مساعديه، كما كل الدول التي اتخذت من النظام الرئاسي طريقا للحكم.

لكن الانتخابات البلدية في إسطنبول منذ أشهر، والتي استطاع حزب الشعب الجمهوري أن يقتنص رئاسة بلديتها الكبرى، كسرت ذلك التفوق النوعي للحزب، وهو ما جعل الكثير، إعلاميا، يصوره على أنها بداية النهاية لحزب العدالة والتنمية، وهنا يأتي السؤال: هل بالفعل بدأ حزب العدالة والتنمية يشيخ، كما شاخ حزب الفضيلة الذي ولد من رحمه العدالة والتنمية؟

بنظرة سريعة على نتائج الانتخابات الأخيرة، نجد أن الحزب لم يفقد شعبيته كما يصور الإعلام، فالنسب التي حققها الحزب في الانتخابات البلدية تقترب كثيرا من تلك التي حققها في الانتخابات الرئاسية والاستفتاء على التعديلات الدستورية، إلا أن إسطنبول لما لها من رمزية خاصة، فإن التأكيد على نتائج انتخاب رئيس بلديتها كان أحد الأوراق التي لعبت عليها المعارضة لإظهار الحزب على أن يحتضر، هذا الانطباع حاولت دول إقليمية وغربية تثبيته لدى المواطن التركي من خلال وسائل إعلام تقليدية، ومنصات التواصل الاجتماعي التي جندت لها آلاف اللجان الإلكترونية أو ما يسمى بالذباب الإلكتروني.

مع ذلك، وحتى لا يدفن المراقبون رؤوسهم في الرمال، فإن هناك أخطاء وقع فيها الحزب، ولم يكن أبدا، إعلان كل من رفاق الدرب وشركاء النجاح في الحزب عن إمكانية تدشين حزب جديد ـ حسب ما تذكره وسائل إعلام حتى اللحظة ـ إلا عن رؤى ومآخذ على أداء الحزب.

علي باباجان مهندس الملف الاقتصادي للحزب، وأحمد داود أوغلو مهندس العلاقات الخارجية، والرئيس السابق عبد الله غول، عناصر مهمة في مكونات حزب العدالة والتنمية وأساس الخلطة السرية التي أعطت للحزب نكهته الخاصة وتنوعه الذي على أساسه نجح وقدم نفسه للشعب كنموذج توافق، الآن ليسوا في الحزب، ولا يمكن ان نتهم أحدهم بالعمالة أو الانقلاب، كتبرير مريح لأسباب تراجع الحزب، بشكل أو بآخر.

الخلطة السرية التي استطاع الحزب أن يقدمها، بدأ غيره يحضرها، فحزب “الجيد”، استطاع أن يقدم نفسه للطبقة المتوسطة والمحافظة مستميلاً في نفس الوقت القوميين، منبت الحزب ومنطلقه، الآن بدأت رموز وقامات كبيرة من داخل مطبخ العدالة والتنمية يقدمون وجبات سياسية شبية بما قدمه العدالة والتنمية في السابق، وإن كانت الإمكانيات شاسعة، والظروف مواتيه أكثر لصالح العدالة والتنمية.

إلا أنه في النهاية هي قضمة جديدة من نصيب الحزب في الشارع التركي، فعلى قيادات الحزب أن تدرك بأن الشعوب مزاجية وطامحة دوما للمزيد والجديد، وعليه فإن على العدالة والتنمية أن يقدم مشاريع جديدة ونوعية، مع نظرة حقيقية لجيل الشباب الذي يمثل نسب تجاوزت الــ 16%، وكذا التنوع المجتمعي والعرقي والاقتصادي لتركيا، فالوصول إلى الرئاسة والبرلمان لن يكون من خلال إسطنبول ولا من خلال مكون واحد، والتوازنات صعبة واللعب على حبالها يحتاج خبرة يجب أن تكتسبها قيادات شابة مقنعة تقدم للشارع التركي.

التغيير يحتاج فترة كما يحتاج تدرجا، وحتى يستعيد الحزب شبابه عليه أن يدفع بالشباب ويستبعد الوجوه التي عليها لغط، ولتتذكر دوما قيادة الحزب أن إرضاء الشعوب غاية لا تدرك، والعمل الجاد والنزاهة كفيلة بالبقاء في سدة الحكم.

.