العدالة والتنمية.. مشكلة “صفر مشكلات”

في آب 2014 وعندما اختاره الرئيس التركي رجب طيب أردوغان ليكون بدلاً منه على رأس الحزب والحكومة، كان أحمد داود أوغلو يردد “إن العدالة والتنمية حزب قديم منبعه ومصدر قوته جماهيره، بقيادة أردوغان”.

في أيار عام 2016 وبعد تضييق الخناق عليه للتنحي والمغادرة بعدما اختلف مع الرئيس التركي في طريقة الإدارة وتحديد السياسات، التزم الصمت بانتظار الفرصة المناسبة لتصفية الحسابات والانتقام لنفسه.

في نيسان 2018 أعلن أنه لن يترشح على لوائح الحزب في الانتخابات البرلمانية وفضّل الانتظار عاماً كاملاً لتسنح له الفرصة الأولى في “مانيفستو” نيسان 2019 ليعلن الحرب على سياسات الحزب وقرارات قياداته الخاطئة في الداخل والخارج كما يقول. هو استفاد من هزيمة العدالة والتنمية في الانتخابات المحلية ليجاهر في الاعتراض على طريقة وأسلوب ومضمون تغيير شكل النظام من برلماني إلى رئاسي وإمساك أردوغان برئاستي الدولة والحزب معاً في البلاد داعياً للعودة إلى معايير وأسس العمل الديمقراطي وفسحة الحريات والمشاركة السياسية التي أعلنها العدالة والتنمية عند انطلاقته عام 2001.

قبل أيام واصل الخوجا تصعيده ضد حزبه وقياداته متحدثا عن “أسرار دولة يعرفها ولو كشف عنها فلن يخرج البعض للتجول بين الناس”. فجاءه الرد الصاعق والصادم من أردوغان “حان وقت الرحيل” وحرمه من حلم قيادة عملية تصحيحية في الحزب تضعه على رأس الهرم.

لم تكن المسألة تحتاج إلى هذا التعمق في الرصد والتحليل لتعلن الهيئة المركزية في الحزب قرار إحالته بالإجماع على المجلس التأديبي بطلب إخراجه هو ومجموعة من رفاقه بناء على المادتين 117 و119 من النظام الداخلي للحزب.

داود أوغلو رغم أكثر من 14 عاماً أمضاها في خدمة الحزب كمنظّر “صفر مشكلات” ووصوله إلى أعلى المناصب الحزبية والسياسية يعرف جيدا أنه لا يملك هذا الثقل الشعبي والحزبي الذي يعطيه فرصة قيادة العدالة والتنمية أو حتى إنشاء حزب جديد ينافس حزب العدالة وينتزع منه السلطة في القريب العاجل.

داود أوغلو يعاني من الأخطاء المتلاحقة التي ارتكبها في التقدير وعدم مصالحته مع المجموعة المغبونة والمهمشة والمبعدة في الحزب وتعنته في البقاء وحيدا وها هو أمام أزمة الترجل بهذه الطريقة الموجعة.

مشكلة داود أوغلو الأكبر هي قبوله عرض الرئيس أردوغان عام 2014 ودخوله المواجهة إلى جانبه ضد الرئيس الأسبق عبد الله غل وتوقيعه على قرار إبعاد العشرات من الكوادر الحزبية التي لم تنس له ذلك وهي تتوحد اليوم باتجاه إنشاء حزب إسلامي محافظ جديد بقيادة الثنائي غل – علي باباجان حيث من الصعب جدا أن يكون له مكان بينها.

في آب 2014 كان أردوغان يرد على الانتقادات الموجهة له في اختيار داود أوغلو: إننا جميعا نتحرك بناء على مصالح الحزب وتطلعاته ولا حسابات أو منافع شخصية أو فردية. وكان داود أوغلو نفسه يقول إن تركيا تخلت عن عقليتها القديمة وهي تعتمد أساليبا ولغة جديدة في إدارة شؤونها تلبي أحلام ومطالب الشعب التركي وإن القائد الحقيقي ليس من ينتظر ما ستقوله الدول الكبرى بل ما يقوله شعبه وما يحتاج وطنه من تغييرات وإصلاحات. خلال 3 أيام فقط أعطى داود أوغلو الرئيس أردوغان كل التأييد والدعم لإنجاز عملية انتقال سياسي ودستوري سريع كان جزءا منها ولم يعارضها فكيف سيقنع القواعد الشعبية اليوم بمواقفه الرافضة لما جرى في العامين الأخيرين؟

هل نحن أمام نقطة اللاعودة؟

مهمة داود أوغلو شبه مستحيلة في تأسيس حزب جديد ينافس على أصوات الإسلاميين والمحافظين في تركيا لكن مهمة أردوغان أيضا ليست سهلة.

فهو بدلا من الذهاب باتجاه عملية النقد الذاتي والإصلاحات والتغيير الحقيقي في الحزب والحكومة ومحاولة إرضاء الكوادر والقيادات المهمشة والمبعدة يريد أن يبدأ من نقطة تطهير المجموعات المعارضة المتمردة والرافضة في الحزب وتكريس تحالفه مع حزب الحركة القومية اليميني لسد الفراغ الحزبي.

من ناحية أخرى هناك ما يقوله أردوغان ورغم هزيمتين متلاحقتين تلقاهما حزبه اختار طريق التحدي والتصعيد مع الأصوات المعارضة في الحزب. هو يقول إنه سيبقى على رأس السلطة حتى العام 2023 دون الدخول في أي نقاش حول العودة إلى النظام البرلماني أو التنحي عن مناصبه السياسية والحزبية في الدستور المعدل والمدعوم باستفتاء شعبي يعطيه هذه الفرص. لكن هناك من يكرر في المعارضة أن تركيا عاجلا أم آجلا ستذهب إلى الانتخابات المبكرة بسبب الأزمات الاقتصادية التي تعيشها البلاد والانسداد في أكثر من ملف داخلي وخارجي.

أردوغان يقول من حاول إلحاق الأذى بحزب العدالة كان مصيره دائما الخسارة والهزيمة. الواضح هو أن الرئيس الذي احتفل قبل أيام بذكرى 17 عاما على حزبه في السلطة اختار ألا يوجه الدعوات للكثير من رموزه وقياداته المؤسسة مثل أوغلو وغل وباباجان وحسين شليك. القرار هو محاربة مشروع التجديديين والانشقاقيين والتصحيحيين في الحزب كما يبدو. سخرية القدر هي أن نسمع اليوم كلاما مشابها لما كان يقوله الزعيم الإسلامي نجم الدين أربكان عام 2001 بشأن “طلبته” المنشقين عنه بفارق بسيط في الحالة الأولى، أربكان هو من كان يشن هجماته عليهم بينما هم اليوم في وضعية “الثورة التي تأكل أبناءها”.

أردوغان الذي يعلن من قونية مدينة داود أوغلو وأمام الآلاف أننا سنصفّي من هم على الورق بيننا لكن قلوبهم في مكان آخر، سيكون بعد أيام في قيصرية مدينة عبد الله غل هذه المرة. ما الذي سيقوله من هناك وما هي الرسائل التي سيوجهها لأبناء المدينة التي تفتخر لسنوات أنها قدمت شخصية مثل غل ليكون رئيسا للبلاد؟

مشكلة الحزب وأردوغان بعد الآن لن تكون “تمرد” داود أوغلو أو “عصيان” باباجان فقط وحاجتهما سريعا لتغييرات حزبية وحكومية وأسماء جديدة تحمي ديناميكيته وهو في الطريق إلى العام 2023 مئوية تأسيس الجمهورية التركية الحديثة. وهي ليست أيضا مشكلة الفارق الواسع بين أصوات الحزب وأصوات شعبية أردوغان حيث يثق الناخب برئيسه لكنه لا يقف إلى جانب حزبه وهو يتوجه إلى الصناديق. لا بل إن مشكلة العدالة والتنمية لن تكون مع الأصوات المعارضة في الداخل أو محاصرة حليفه حزب الحركة القومية له بالشراكة المؤلمة، ولا مع ضرورة إطلاق استراتيجية تحرك سريع لإخراج البلاد من أزماتها الاقتصادية والسياسية، بل مع أحزاب المعارضة التي بدأت تقلده هي الأخرى في تشكيل اصطفافات حزبية وسياسية وشعبية واسعة نجحت في أخذ أكبر وأهم بلديات تركيا من يد حزب العدالة.

العدالة والتنمية يهمه طبعا تحصين قلاعه ومواقعه من الداخل مرة أخرى لكن الأريحية التي قد تكلفه باهظا هي الرهان على حزب الحركة القومية ليقف إلى جانبه ويوفر له الدعم السياسي الذي يحتاجه فهو يدرك تماما أن القاعدة السياسية المعروفة تقول لا شيء دون مقابل.

  بواسطة/ د. سمير صالحة
اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.