متابعة إعادة هيكلة توازنات الشرق الأوسط من قلب ماردين

لقد قلبت عملية نبع السلام العسكرية التي نفذتها تركيا في شمال سوريا الوضع القائم في الشرق الأوسط منذ ستة عقود رأسًا على عقب ودفعت الجميع للبحث عن توازنات جديدة. ولا ريب أنّ هذه العملية تستحق ما هو أكثر بكثير من الاهتمام والتحليلات الصحفية اليومية العادية. وعليه، علينا أن نحسن تحليل المعنى والمكانة التي يمكن أن تحوذها الوتيرة التي قادت لعملية كهذه، والتي يمكننا التوقع من الآن أنها سيكون لها آثار ونتائج على هذا المستوى، وكذلك ردود الأفعال إزاءها، وفي نهاية المطاف المرحلة التي ستصل إليها، وذلك في إطار العلاقات الدولية القائمة حاليا.

عدم قدرة تركيا عن القول إنهم يفعلون مشكلة عامة وعدم وجود جهد كبير للظهور بفعالية بين أوساط PR العالمية حتى في أكثر المسائل التي تكون محقة فيها. تعتبر تركيا الدولة رقم واحد عالميا في مجال تقديم المساعدات الإنسانية مقارنة بتعداد سكانها. بيد أنها ليست أغنى دول العالم. وما يدعم ذلك ليست المبادرات الحكومية فحسب، بل كذلك الأنشطة التطوعية التي تقوم بها منظمات المجتمع المدني؛ إذ إن عشرات الآلاف من آبار المياه التي حفرت في مختلف دول أفريقيا تتدفق منها مياه ينابيع شفقة قلوب سكان الأناضول، كما تساهم التبرعات التي يقدمها أبناء الشعب التركي في تفتيح عيون عشرات آلاف المصابين بأمراض العيون على أيدي الأطباء الرحماء.

وقبل مدة قصيرة سرد طالب مصري يدرس بجامعة الشرق الأوسط التقنية بالعاصمة التركية أنقرة ما شعر به من فخر وحماس لما شهده من كل تلك الأحداث على زملائه الأتراك الذين أخبروه بأنهم لم يكونوا على علم بكل هذه الأمور، ما أصابه بالدهشة والذهول. وكان ذلك الطالب يحكي، بكل براءة، أن زملاءه من طلاب تلك الجامعة المرموقة، الذين دائما ما يوجهون الانتقادات لمجتمعهم، عندما علموا بهذه الفعاليات أصبوا بدهشة كبيرة ووصل بهم الأمر أنهم شعروا بالحجل من بعض الأفكار التي يحملونها.

أعتقد أن المشكلة التي تعاني منها تركيا ليست هي عجزها عن التعبير عن ذاتها، بل عدم اهتمامها للتعبير عن ذاتها. فهي لا تهتم بأن يعلم العالم بأحقيتها واستقامتها ما دامت هي تعلم ذلك؛ إذ إنها تفكر بمنطق “افعل الخير وارمه في البحر، فإن لم يعلمه السمك فسيعلمه خالقه” ولا تهتم بشيء سوى ذلك. بيد أن عالم اليوم يحتم علينا أن تحكي ولو قليلا عما تفعل. وبطبيعة الحال ليس هناك أدنى داع لإنفاق عشرة قروش للتعريف بمساعدة لا تساوى سوى قرشا واحدا.

ولقد كان من نصيبينا أن نطلع على تقييم مفصل حول عملية نبع السلام في جامعة أرتوكلو بولاية ماردين التركية القريبة من الحدود السورية بمحاذاة المنطقة التي جرت بها العملية. وفي حقيقة كانت قاعة مؤتمرات هذه الجامعة مكانا يحمل مدلولا في غاية الأهمية للقيام بتقييم كهذا. وقد تناولنا على مدار اليوم إعادة هيكلة موازين الشرق الأوسط بما حدث قبل عملية نبع السلام وبعدها، وذلك من خلال مناقشات الحضور الكرام من الشخصيات المتخصصة في مجالاتها.

وقد عرض المتحدثون خلال مختلف جلسات الندوة عروضا تقديمية حملت عناوين مثل “سوريا والشرق الأوسط في السياسة الخارجية لروسيا والاتحاد الأوروبي، السياسات الإسرائيلية في سوريا، حملة شعواء ض عملية نبع الفرات في الإعلام الغربي، مساهمات هيئات الإغاثة التركية لحل المأساة الإنسانية، دور تركيا لإحلال السلام، السياسات الإيرانية في سوريا، تغير الدور الأمريكي في الهيكل الأمني للشرق الأوسط”، وهو ما كان بمثابة عصف ذهني حقيقي.

وأرى أن طلاب جامعة أرتوكلو كانوا أكثر من ساهم في هذا العصف الذهني بقدر مساهمة المشاركين الكرام أمثال قدرت بلبل وأحمد أويصال وأوزدن زينب أوكتاف وإبراهيم أوزجوشار وويسل قورت وبيلجاهان ألاجوز ونجم الدين أكار وفريدون بيلجين وإسماعيل خالص وإبراهيم ألتان وإحسان أكطاش.

أشارك منذ سنوات في العديد من المؤتمرات والندوات الأكاديمية، لكني لم أر لذلك مثلا حتى هذه اللحظة. وقد أعطيت الكلمة عقب ما قاله المشاركون للطلاب الحاضرين كي يوجهوا أسئلتهم للمتحدثين، فرفع تقريبا كل الطلاب أيديهم طلبا للكلمة من أجل توجيه الأسئلة، وهي اللحظة التي كانت صعبة للغاية على مديري الجلسة الذين حاولوا إعطاء الكلمة، بصبر كبير، للجميع بقدر ما أتاحت الفرصة والوقت. وقد وجه عدد كبير من الطلاب الأسئلة وساهموا في إثراء الجلسة، لكن ما كان أكثر تأثيرا من عدد الأسئلة هو مستوى الأسئلة والاهتمام الشديد للطلاب.

ويكفيني أن أقول هذا القدر، فسألت نفسي “غير معقول، وهل يمكن ألا يطرح أي سؤال فارغ؟ أين تربى هذا الجيل من الشباب؟ ألم يكن الشباب التركي لا يقرأ ولا يهتم وكان فريسة بين مخالب الثقافة الشائعة والعبثية؟ من قال هذا يا ترى؟

ويبدو أنني دائما ما أكون محظوظا عندما يتعلق الأمر بمقابلة “الأشخاص الطيبين”. وإذا تابعتم بعض التحليلات المتشائمة ستعتقدون أن الشباب التركي قد دمر وانتهت الجامعات وصارت بلا فائدة. بيد أنني أرى عكس ذلك في الكثير من الأحيان. ولقد رأيت واحدا من أكثر المشاهد المبشرة في وجوه هؤلاء الشباب الواعدين من شباب جامعة أرتوكلو.

وفي الواقع لقد استحقت هذه الحادثة أن أفرد للحديث عنها وعن انطباعي لما رأيت مقالي اليوم.

علمت أن مركز الشباب التابع لولاية ماردين به ناد للعلاقات الدولية، وأن هؤلاء الشباب يجدون بيئة ثرية للغاية من أجل تنشئة أنفسهم هناك. ومن موقعي هذا أبعث أخلص التهاني للسيد والي ماردين ومدير مركز الشباب ورئيس جامعة أرتوكلو وأساتذتها، وبكل تأكيد طلابها الأعزاء.

.

ياسين اكتاي بواسطة/ ياسين اكتاي

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.