بين اللغة كأخطر ما مُنح الإنسان والقلعة التي لم تُرممها الليبرالية

إن من المفيد والصائب أن يتم البدء بـ “الأسماء” من حيث كونها إمكانية في عملية بناء الذات المسلمة. يقول هايدغر أن اللغة هي موطن الوجود. إن الوجود يتكشف ويتم فهمه من خلال اللغة، ولا حقيقة بدون اللغة. ومع ذلك فإن هذا لا يشير إلى إمكانيتنا رؤية اللغة كأداة في مخيلتنا.

لعل أبرز ما يشير إلى هذه الميزة في اللغة هو قول هايدغر في قصيدته هوردلين، حيث يصف اللغة بأنها “أخطر ملكية تم منحها للإنسان”. لأن اللغة من حيث كونها شيئَا منح للإنسان، فإنها لن تخلو من استخداماته وتصرفه وتحكمه بها.

يتمتع الإنسان بإمكانية التسمية إلى جانب اللغة الممنوحة له. وإن هذه التسمية تؤسس لتسلسل هرمي في هذا العالم على شكل أدوات تخدم الإنسان أو تسيّره خادمًا لها. تبدأ اللغة كتشويه للواقع أو الحقيقة، ومن ثمّ لتبني جدارًا أيديولوجيًّا سميكًا حول موطن الإنسان ووجوده. وما قوله تعالى “كبرت كلمة تخرج من أفواههم” (الكهف – ٥)؛ إلا حقيقة لذلك أو انعكاسًا لحقيقته.

إن اللغة تؤدي وظيفتها على اعتبارها أخطر ما مُنح للإنسان، بأكثر أحوالها خطورة ودقة. تؤسس التسلسلات الهرمية غير العادلة بين الناس، وتسمّيها وتنعتها وتصوّرها وفق طبيعتها المزدوجة، وعبر جميع هذه المفردات تؤسس للعالم من خلال منظور؛ من هو الأعلى، ومن المحق، ومن وما هو الصالح. إن اللغة من حيث كونها أخطر ما مُنح للإنسان، كلما ابتعدت عن التسميات الإلهية الأولى، فإنها تسرف في الابتعاد عن تصوّر الواقع وحقيقته، ومن ثمّ تشوهه وتحرفه.

إن معركة الوجود والوطن التي يناضل لها المسلمون، ترتبط بشكل ما بإمكانية وصولهم للغة الأصيلة الحقيقية، وعرض العالم كما هو ببساطة. وتحويل تلك اللغة التي حرفت العالم إلى أصلها، على شكل عملية تنظيف نقدية من شأنها عرض الواقع على حقيقته.

إنني لا أقصد من تلك العبارة التي يتم ترديدها؛ من قبيل “علينا التحدث بلغتنا”. من الملاحظ أنها عبارة لا تتمتع بقدر كبير من السهولة. الذين يرددونها أنفسهم لا يمكنهم إيصال رسالة للعامل من خلال استخدام لغة يتحدثون هم بها ويفهمونها، بل عليهم البحث عن لغة يمكن للمخاطب أن يفهمها حتى يتحقق الغرض من رسالتهم. وما سوى ذلك مستحيل من الناحية العملية. ولهذا السبب تم إرسال كل رسول بلغة قومه، ليس لغتهم فحسب، بل ثقافتهم ومزاحهم وجدهم وهزلهم وأتراحهم وأفراحهم.

هذا لا يعني أن نتعامل مع جميع مشاكلنا على أنها مجرد متاعب. بعض متاعب الناس لا تكون علاجًا لهم بل ربما جحيمًا. تأملوا في العديد من متاعب الناس اليوم، تجدونها قد غيبتهم وجعلتهم أشبه بمدمنين على عادات خطيرة يمكن أن تقود نحو الكارثة. لكن حتى نتمكن من قول ذلك لا بد من امتلاك أداة فهم عميقة. ولذلك السبب علينا أن نقول، بأن عبارة “علينا التحدث بمفاهيمنا” التي يتم ترديدها من حين لآخر؛ تبدو مبالغًا فيها أكثر من اللازم. لأن الذي يريد إيصال رسالة ما عليه أن يتحدث بلغة المخاطب، أما أن ينتظر من المخاطب أن يتعلم لغته هو فهذا مما لا فائدة ولا جدوى منه.

وفق جميع ما سبق من اعتبارات، يتطلب التأسيس لذات مسلمة؛ وجهات نظر نقدية وتفكيكية حول اللغة التي نتحدثها أو نُخاطَب بها. وإن سلمان سيد في كتابه استعادة الخلافة يحاول التأسيس لتلك الذات المسلمة، من خلال البدء بـ “الأسماء”، وتراه يعرض تساؤلاته وأعماله الإسلامية النقدية، تحت عناوين مثل؛ الليبرالية، العلمانية، النسبية، الديمقراطية، علم المستقبل، الشتات، الخلافة، النظام، والتفسيرية.

على سبيل المثال، تحت العنوان الأول “الليبرالية”؛ يعرضها كنموذج على استراتيجية الغرب في فرض فلسفته وأسلوبه الحياتي على العالم كله، بعد منحهما جزءًا من العلمية والشمولية.

في السياق ذاته تمثّل الليبرالية أبراجًا عالمية أشبه بقلعة بابل، تحاول اقتناص لغة عالمية موحدة من شأنها القضاء على جميع اختلافات وفروقات الناس. بين أن السياسة لا مكان لها في تلك الأبراج، حيث أن الجميع في وضع يحتم عليهم مواكبة الحقيقة العلمية والتاريخ في مواجهة العقل المشترك، والتحدث بلغة واحدة. فضلًا عن ان السياسة تكون في المواضع التي يحدث فيها تمايز وتفاضل.

من خلال هذا السياق يمكن فهم ما تتستر عليه أعمال “الحوار” الذي يدعو له الغرب، والذي يقوم على نسيان كل الإمبريالية والاستعمارية الغربية، والتغافل عن ماضيه وحاضره.

هذه الانتقادات يعرضها سلمان سيد في كتابه، عبر الحديث عن مقابلة أجرتها شبكة سي إن إن، مع الرئيس الإيراني الأسبق، محمد حاتمي، عرّج فيها نحو ألكسيس دو توكفيل، خلال حديثه ضد السياسة الأمريكية. بالطبع يختلف معنى ذلك بالنسبة للمسلمين، وبين الأمريكيين الذين لم يرتاحوا من عقد تلك المقارنات.

إن وجودنا البشري الذي يتشكل من تدمير البرج العالمي الذي أشرنا اليه سابقًا، ومن ثمّ اختلاف لغات الناس فيما بينهم؛ هو أساس تمايزنا وبالتالي أساس السياسة. هناك رغبة في القضاء على هذه الاختلافات بين البشر، وهي رغبة لا يمكن إخفاؤها لا سيما في التاريخ الغربي، وهي في الوقت ذاته تعكس جوهر المحاولات الشمولية التي تسعى للقضاء على اختلافاتنا كبشر.

إن البطاقات الحمراء التي تتم محاولة رفعها في الغرب، سواء ضد الإسلام أو الثقافات الأخرى، وسواء باسم العلم أو المدنية أو التاريخ أو العولمة؛ تظهر بوضوح كيف أن الليبرالية التي يغلفونها باسم الديمقراطية، ما هي إلا سيف من الاستبداد. وفي المقابل، يبدو الوجود الإسلامي الذي لا يضاهى، في مواجهته لتلك البطاقات الحمراء، يتمتع بتأثير ليس على مستوى الصلابة فحسب، بل على مستوى الفلسفة التي بإمكانها تعرية المركزية الغربية على حقيقتها.

ولذلك فإن مقولة “صراع الحضارات”، ما هي إلا محاولة للتغلب على الآثار التي يمكنها تفكيك هذا الخطاب الغربي.

.

ياسين اكتاي بواسطة / ياسين اكتاي  

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.