الكوارث تفتح الطريق لتوازنات جديدة.. نماذج من تاريخ تركيا

تُطلعنا الصورة المقدمة لمكافحة فيروس كورونا (كوفيد 19) على تفاصيل تتعلق بالتكامل الاجتماعي وثقافة التضامن في كل بلد، وكذلك على مستوى التكامل بين الدولة والمجتمع، وإنّ أصالة الأمّة تظهر في مواقفها عندما تتعرض لمثل هذا النوع من الكوارث، وفي الواقع يصف علماء الاجتماع الغربيون مثلَ هذا الحدث بأنه “رأس المال الاجتماعي” لأيّ بلد.

يعني رأس المال الاجتماعي عادة قدرةَ أفراد المجتمع على التدخل في الشؤون المجتمعيّة، وإنجاز الأعمال المفيدة من خلال تنظيمهم، وبدوافعهم الخاصة دون ضغط من الدولة. ويلعب هذا التضامن والتطوع دورًا مهمًّا في الدفاع عن البلد، وكذلك فإنّ لرأس المال الاجتماعي أهميةً في تنمية البلد أكثر من الموارد المادية.

وإنّ تركيا استطاعت مِرارًا أن تُثبت معدنها الأصيل وجودة طينتها كأمّة، ولا سيما في الظروف الصعبة. ويمكننا رؤية ذلك في أحداث كثيرة عبر التاريخ، بل يمكننا القول: إن تاريخ تركيا -في مواجهة مثل هذه الأزمات- تاريخٌ زاخرٌ بالأمثلة على التضامن المجتمعي القوي، في ظل قيادة الدولة.

فقد مرّت فتراتٌ اتصفت فيها الروابطُ بين الدولة والمجتمع بالوَهن والضعف؛ ولا سيما في فترات الانقلاب العسكرية وأثناء الممارسات العلمانية الصارمة. ومع ذلك؛ فإنّ المجتمع لم يهمل التضامن المجتمعي أثناء حوادث كالزلازل ومكافحة الإرهاب والأزمات الاقتصادية، بل كان المجتمع ينظّم نفسه بنفسه، ويقوم بهذا التضامن والتطوّع من تلقاء نفسه وليس بأوامر من الدولة.

وبالنظر إلى هذه الميزة؛ فإنّه -ومن وقت لآخر- وُجدت في تركيا مؤسسات مجتمع مدني قوية ومساهمة في قيادة الدولة، والمجتمع المدني هو -في الواقع- أهم رأس مال اجتماعي يجعل الدولة قوية.

“مرّت تركيا بفتراتٌ اتصفت فيها الروابطُ بين الدولة والمجتمع بالوَهن والضعف؛ ولا سيما في فترات الانقلاب العسكرية وأثناء الممارسات العلمانية الصارمة. ومع ذلك؛ فإنّ المجتمع لم يهمل التضامن المجتمعي أثناء حوادث كالزلازل ومكافحة الإرهاب والأزمات الاقتصادية، بل كان المجتمع ينظّم نفسه بنفسه، ويقوم بهذا التضامن والتطوّع من تلقاء نفسه وليس بأوامر من الدولة”

لو عدنا إلى التاريخ قليلا؛ وأخذنا مثلا أحداثا كـ”النفير العام” (سفر برلك) سنة 1914م؛ فسنرى أن الشعبَ كان مؤمنا بدولته، وبدون إجبار من الدولة اندفعت الغالبية العظمى من الشعب لمواجهة المحتلين، لحماية الوطن من الغاصبين حتى آخر قطرة دم.

وبالنظر من هذه الزاوية إلى معركة “جناق قلعة” -التي مضى منذ أيام الاحتفالُ بذكراها السنوية- فهي تُعَدّ واحدةً من أفضل الأمثلة على الاندماج والانصهار الكامل بين المجتمع والدولة. فأهميةُ “جناق قلعة” ليست فقط في البطولات التي أظهرها أولئك الذين قاتلوا في ساحة المعركة، بل أيضا تكمن في السمات التي جعلت هذه الحرب ملحميةً.

فعندما كان الجيش في طريقه إلى ساحة المعركة؛ كانت طبقات الشعب تسانده وتدعمه، فالجميع كانوا يُبدون استعدادهم ورغبتهم في التطوع للمشاركة في هذه الحرب، وكانوا يُقبِلون على التضحية بحماسٍ قلّ نظيرُه، وهذا هو الذي أضفى الطابع الملحميّ على هذه الحرب. إنّ كلية الحقوق بمدينة قونيا بقيت سنوات لا يتخرّج فيها أيُّ طالب؛ وجميع طلاب تلك الكلية لم يكونوا جنودا أو مجبَرين على الخدمة، ولكنهم التحقوا طواعيةً بالجيش فاستشهدوا كلهم في الحرب.

إنّ الذي شكَّلَ شخصيةَ تركيا اليوم ومنَحَها طابَعها الحالي هو هذا التضامن الاجتماعي، وإنّ “حركة المقاومة الوطنية” (قُواي ملّيّه) -التي بدأت بعد جناق قلعة- كانت نموذجا رائعا على قيام المجتمع بتعبئة نفسه، لإنقاذ الخلافة وإنقاذ آخر قلعة للإسلام من الاحتلال، بينما كانت الدولة أو السلطة رازحةً تحت الاحتلال الأجنبي في إسطنبول.

ولكنْ بعد ذلك حدث انفصالٌ خطير بين الدولة والشعب؛ بسبب السياسات العلمانية التي تم تنفيذها لاحقًا، فبينما كانت الدولة تسعى بكل إمكاناتها نحو مكان آخر، كان الناس يحاولون أن يعيشوا قيمهم الخاصة في عالمهم الخاص، ولم يساهم المجتمع كثيرًا خلال الأزمات التي مرّت بها البلاد في أثناء ذلك.

بل إنّ الشعب -بشكل عام- لم يعُد يُبدِي استجابةً وحماسًا كافييْن لنداءات الدولة من أجل التضامن في الأوقات الحرجة، حيث كانوا يعتقدون أن الدولة نفسَها هي التي تسبّبت في الأزمة؛ ولا سيما في أوقات الانقلابات وأثناء حكم العسكر البعيدين عن قيم الشعب وتطلُّعاته.

والحقيقةُ أنّه في هذه الظروف لا تتراجع ثقةُ الناس في الدولة فحسب، بل أيضًا تنخفض ثقة الناس في بعضهم بعضا؛ لأن السياسات القمعية للدولة لها تأثير يقلل الثقة الاجتماعية مثل الفتنة في المجتمع. ولهذا السبب؛ فإنّ مؤشرات الثقة التي يتم قياسها بشكل دوريّ من قبَل الأمم المتحدة؛ سجّلت انخفاضات خطيرة في الأمان الاجتماعي خلال فترات الانقلاب.

ومع ذلك؛ فعندما كانت تحدث كارثة طبيعية في البلد، كنا نرى المجتمع من جديد يتكافل ويتضامن ويعمل بمفرده وطواعية، بغض النظر عن موقف الدولة ووضعها. وأحد أبرز الأمثلة على ذلك هو ما حدث في زلزال مرمرة العظيم الذي وقع في 17 أغسطس/آب 1999.

ففي مواجهة هذا الزلزال؛ كانت الحكومة -التي جلبها انقلابيّو 28 فبراير/شباط (1998م) تعيش إفلاسا كاملا، ولم يصل الوزراء أو طواقم الإنقاذ إلى الأماكن التي وقع فيها الزلزال إلا بعد عدة أيام، وظهر في واقعة هذا الزلزال كم كانت الحكومة غير مستعدة لمواجهة مثل هذه الحوادث.

“في ظروف سيطرة الحكام البعيدين عن قيم الشعب وتطلُّعاته لا تتراجع ثقةُ الناس في الدولة فحسب، بل أيضًا تنخفض ثقتهم في بعضهم بعضا؛ لأن السياسات القمعية للدولة لها تأثير يقلل الثقة الاجتماعية مثل الفتنة في المجتمع. ولهذا السبب؛ فإنّ مؤشرات الثقة التي يتم قياسها بشكل دوريّ من قبَل الأمم المتحدة؛ سجّلت انخفاضات خطيرة في الأمان الاجتماعي خلال فترات الانقلابات بتركيا”

وفي مقابل ما أظهرته هذه الحكومة من العجز الكبير في مواجهة هذا الزلزال؛ ظهرت معجزة المجتمع المدني القويّ في تركيا، فمنذ الدقائق الأولى لحدوثه لم ينتظر المجتمعُ الدولةَ، بل اعتمد على نفسه وتضامُنِه في مواجهة هذه الكارثة، فحشد بمفرده جميعَ فرق البحث والإنقاذ وحملات المساعدة ولم يقف مكتوف الأيدي مترقِّبا مساعدة الحكومة.

في هذا الزلزال -الذي قُتل فيه 16 ألف شخص، وأصيب عشرات الآلاف بجروح، ودُمِّرت عشرات الآلاف من المباني- تجاهل المجتمعُ المدني الحكومةَ، التي كانت مشغولة في التعبئة وشنّ الحرب على معتقدات الشعب وقيمه، واعتبرها المجتمع كأنها غير موجودة، فتكاتف بنفسه وتضامَنَ لإنقاذ الموقف.

وما حدث في هذا الزلزال أضر بثقة الجمهور في الدولة أكثر، لكنه زاد من إيمانهم بأنفسهم. ولكنّ المفارقة هي أنه -في وقت لاحق- تم فتح تحقيق ضد العديد من المنظمات غير الحكومية -التي سارعت للمساعدة على الخروج من محنة هذا الزلزال- بتهمة إظهار الدولة على أنّها غير قادرة. وبالنظر فيما حصل أيام هذا الزلزال؛ نجد أنّه حتى عندما انهارت الدولة في تركيا ٍظهر أن هناك مجتمعا من شأنه أن يسندها ويقوّمها.

وبما أن الكوارث تفتح الطريق لتوازنات اجتماعية وسياسية جديدة؛ فإنه بعد هذا الزلزال -بفترة وجيزة- اضطّرت الحكومة التي شكّلها انقلابيّو 28 فبراير/شباط إلى الانسحاب من الساحة، وحلّت مكانها حكومةٌ مدعومة من الشعب.

وفي الواقع؛ فتح هذا الزلزال طريقا قادت إلى تغييرات كبيرة في تركيا؛ فبعده أدت الأزمة الاقتصادية الناتجة عن سوء إدارة الحكومة إلى إسقاط الحكومة، وحَلّت مكانَها حكومة “حزب العدالة التنمية” الذي فاز فوزا ساحقا وتغلّب على جميع الأحزاب في صندوق الاقتراع. وهكذا نجد أن عواقب الكوارث والأزمات الطبيعية أو الاجتماعية لا مفرّ منها؛ فلْنَرَ إذن ماذا ستكون النتائج السياسية لأزمة كورونا التي نمرّ بها؟

.

ياسين اكتاي بواسطة / ياسين اكتاي  

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.