الحرية والمسؤولية والمثلية الجنسية

ذكرنا خلال المقال السابق إحدى العقد النفسية التي جسدها دوستويفسكي في رواياته. ألا وهي استمتاع الآثمين بوقوع أي خطأ محتمل لا سيما من رجال الدين والباباوات، حيث يستقبلون ذلك بحفاوة وكأن بشارة قد زُفّت إليهم. حيث يعتبرون ذلك تشريعًا لآثامهم وتطبيعًا لها يكتسبون منه راحة لأنفسهم.

لطالما نرى لغة الحفاوة تلك في وسائل الإعلام من وقت لآخر. حينما يصدر عن إمام أو راهب خطأ ما يعتبر مما اعتاد عليه الإنسان العادي، فإن ذلك يُستقبل بأخبار مثيرة وحفاوة كبيرة. في الواقع إن رغبة الناس في التخلص من عذاب الخطيبة داخل أنفسهم، تزيد من عملية تلقي هذه الأخبار ورواجها. وبالطبع عبر طريق يسير نحو الجاهلية.

وفي المقابل أيضًا، هناك انزعاج من نوع خاص موجه ضد المتدينين العادين لمجرد أنهم متدينون. وما بعد ذلك تبرز العقدة النفسية ضدّ من يريد البقاء طاهرًا، وينعكس ذلك جليًّا في قوله تعالى “أخرجوهم من قريتكم إنهم أناس يتطهرون”.

أن تكون طاهرًا أو أن ترغب في أن تكون طاهرًا، قد تحوّل إلى جريمة باتت تقريبًا إلى قاعدة ومسلّمة، هذه النظرة باتت تخلق أزمة وتهدديًا، لا سيما في الأماكن التي تحولت فيها الجريمة أو الإثم إلى قاعدة مطردة في النظام الذي يحكم المجتمعات. هذا الكلام لا ينطبق على مسألة اللواط فحسب، بل عن جرائم أخرى أيضًا.

حينما تكون جرائم مثل الرشوة والسرقة والتمييز العنصري والعنف ضد المرأة والضعفاء؛ حقًا مكفولًا للجميع، فإن انزعاج الآخرين منك لا يكون نتيجة انزعاج مسبق منك تجاه ما يفعلون، بل مجرد محاولتك أن تكون نظيفًا-طاهرًا يكفي لانزعاجهم منك.

كما هو معلوم في قصة لوط، كان المجتمع الذي جعل من اللواط قاعدة ومسلّمة، قد انتقل من نقطة ارتكاب اللواط بشكل خاص وفردي، إلى نقطة التعميم وفرض ذلك على جميع من في المجتمع. ولذلك حينما كان ضيفان غريبان عن القرية في منزل سيدنا لوط، هرع قومه يريدون إغواءهما وتطويعهما أيضًا لعادة المجتمع وقاعدة المسلّمة. وحينما حاول سيدنا لوط حماية ضيوفه من قومه، ما كان جواب قومه إلا أن قالوا “أخرجوهم من قريتكم إنهم أناس يتطهرون”.

إن كلمة “يتطهرون” هنا تعني أنهم يحاولون تطهيرنا أيضًا، ويعتبرروننا قذرين، ويهزؤون من إحدى مسلّمات مجتمعنا، ويحاولون العبث بطراز حياتنا. من الواضح إذن أن مجرد الرغبة في الحفاظ على الطهارة الذاتية تعتبر جريمة بنظر هذا المجتمع تستحق النفي والطرد.

تمتلك ثقافة اللواط هذا الطابع. وعلى حد تعبير نيتشه فإنها أسلوب حياتي مليء بالرغبة بسلطة عنيفة. وذلك يتكرر على مدار التاريخ يعيد نفسه كل مرة. ولذلك فإن المثلية الجنسية التي كانت ولا تزال ستستمر على الأغلب كنوع من أنواع الانحراف، إلا أنها لا ترضى بأن تقف عند حدود الحياة الخاصة، بل تريد الاعتراف بها كهوية وخلق اعتبار لها، ولا يكفي ذلك بل تريد أيضًا فرض نفسها على الجميع كي يشاركوا في هذه الخطيئة. ولذلك يتم سلوك طرق مختلفة وخبيثة من أجل إغواء الناس على ذلك.

إن القضية هي تعميم ذلك وفرضه على المجتمع، وإلا فكما أوضحنا سابقًا فإن الجنس هو قضية تتعلق بحياة الناس الخاصة، ولا يحق لأي أحد أن يتجسس على الآخر في هذا الصدد بما في ذلك الدولة. ربما النقطة الوحيدة التي يمكن أن تكون ذريعة للمثليين كي يعلنوا عن ميولهم أمام الرأي العام، هو أن الحياة الجنسية بين الذكور والإناث يتم الترويج لها بشكل علني. وإن الإسلام قد نهى عن الترويج والتشجيع على المثلية، بالقدر الذي نهى فيه عن الترويج للحياة الجنسية بين الذكر والأنثى.

إن إفساد الجنس المنحرف لصحة المجتمع بات حقيقة واضحة، وهذه الحقيقة مما لا يمكن إطلاق وصف “رهاب المثلية”عليها. لماذا نمتنع عن القول بأن التركيز المفرط على الجنس الذكوري والأنثوي لا يصب إلا في مصلحة الرأسمالية التي تنظر للجسد عبارة عن سلعة، وما ينتج عن ذلك من فساد صريح ضد المجتمع.

هناك شيئان لا بد أن يراهما أولئك الذين ينظرون للأمر على أنه مجرد حرية، الأول: هناك خطر حقيقي من المنتجين الذين يعاملون جسد الرجل أو المرأة كسلعة ضمن طريقة رأسمالية لا علاقة لها بالعقل والمسؤولية. نعم الرأسمالية تطالب بحرية استهلاك السلع البشرية، وما الحرية التي يطالبون فيها إلا حرية الاستهلاك للسلعة التي يمثلها هنا الإنسان ذكرًا أو أنثى.

أما الأمر الثاني: فهو ضرورة الموازنة بين حرية الإنسان ومسؤوليته، والمسؤولية تعني هنا عدم تجاوز الحرية لحقوق الآخرين وحرياتهم أيضًا. وفي هذا الصدد تعتبر “حدود الله” في الواقع في المسار نفسه الذي يحتوي على حقوق الآخرين. ما يعني أن الإنسان حينما يقترف خطأ ضد إنسان آخر، فإنه يكون قد اقترفه ضد الله أيضًا.

وفي ضوء ذلك فإن عدم كون لعنة المثلية خطأ بحد ذاته، له أبعاد من حيث أنها لا تتعدى على حقوق الآخر.

لو أمعنا النظر نجد أن غالبية السلوكيات البشرية تتمتع بأبعاد اجتماعية من هذا النوع. أعني السلوكيات التي لا تقتصر على الحدود الفردية، بل تتعدى نحو الآخرين أيضًا. الذي يشرب الخمر مثلًا في بيته دون أن يؤثر على أحد، فإن جنحه متعلق به فقط ولا يملك أحد أن يقتحم عليه ويقول له شيئًا. لكن حينما يشرب ليستخدم العنف ضد زوجته أو أطفاله، أو يخرج لقيادة السيارة؛ فهنا يتحول الأمر إلى مسألة اجتماعية لا فردية.

في هذا الصدد يجب أن تكون أيام كورونا قد فتحت أفقنا وعلمتنا دروسًا هامة في حدود الفردية وتجاوزها نحو الآخرين وتأثيرها عليهم، ومسؤوليتنا تجاه ذلك.

ليس من الصعب جدًّا تخمين أي نوع من الخطر والكارثة التي ستصيب البشرية بأكملها جراء ما يرغب به ويريده المثليون، الذين لا يتحملون مجرد توصيف ما يقومون به بالخطأ.

ولذلك السبب ليس من الغريب أن تكون لديهم ردة فعل غاضبة تجاه الدين ولا سيما الإسلام. إن وصف الإسلام بالخطاب الذي مضت عليه عصور؛ يعبر عن غطرستهم الساعية نحو فرض ذلك على الجميع وجعله مسلّمة من مسلّمات حياتهم.وإن هذا الفكر يتصف بطبيعة فاشية تريد منذ القدم عدم الاكتفاء بالحرية الفردية لفعل ذلك، بل تعميمه وفرضه على المجتمع بأسره.

.

ياسين اكتاي بواسطة / ياسين اكتاي  

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.