ما العلاقة بين القدس وآيا صوفيا؟     

إن الحكايات والأساطير والملاحم لطالما يحرص المؤرخ على تناولها بحذر، وهي على الرغم من تأثيرها على المستمع والقارئ معًا، إلا أنها في الحقيقة ليست تاريخًا. لكن في الوقت ذاته، من الضروري لأي حدث كي يحمل قيمة تاريخية أن يكون قصة، وأن يقال عنه ملحمة، وبالتالي يكون الخطأ محل الأساطير على مدى قرون. إن الأشياء كلما ابتعدت عن الحقيقة كلما ازدادت أسطورية، وظلت عالقة محفورة في ذاكرة الإنسان. وعلى مدار العصور يتم تنحية الوثائق، لتحتل الأسطورة عقل الإنسان وذاكرة المجتمع وتلد أبطالها.

فكرا في آيا صوفيا مثلًا، إنها تبقى في هذا الوضع منذ عام 1483. لا شك على الإطلاق من حيث حضورها ووجودها التاريخي والواقعي. لكن على الجانب الآخر تذكروا القصص والملاحم التي حيكت على أطرافها. أليست تلك الملاحم هي التي حفرت آيا صوفيا في ذاكرة المجتمعات على مر العصور، وأقامت مساحة خاصة تغلبت مع مرور الوقت على الوجود الحقيقي لآيا صوفيا؟

إن الوثائق المتوفر تتحدث عن تاريخ آيا صوفيا، وما عايشته من كوارث طبيعية نشأت عنها أضرار تبعتها عمليات ترميم وإصلاح. إنه يخبرنا عن اهتمام الحكومات آنذاك بهذا المعبد، إنه يخبرنا عن جهودهم والتكلفة المادية التي وفروها من أجل بقاء هذا المبنى واقفًا على أقدامه. إلا أن الأساطير التي حيكت حولها تجعل من آيا صوفيا منظومة فكرية تختصر هلال الإسلام، والتفاحة الحمراء التركية.

لا أعرف في الحقيقة حجم الأساطير التي حيكت حول آيا صوفيا، التي كانت تحفة معمارية هي الأروع بالنسبة لروما الشرقية على مدار ألف عام تقريبًا. ومع ذلك أجد انه من المفيد البحث في الأدب اللاتيني حول ذلك. ولنترك الأمر للمتخصصين في زمننا الحالي.

إن هذا الأثر العظيم أي “الجامع الكبير: ومجمّع آيا صوفيا، منذ الفتح حتى يومنا هذا، لم يأت فقط بميزاته المعمارية والدعائم، بل في الوقت ذاته يحمل معه الأساطير والقصص التي ظلت محفورة في أذهان المجتمعات طيلة عصور. إن هذا الأثر العظيم من خلال وجوده وحكاياته، يعتبر رمزًا للروح الجماعية لكل الأديان التي أنارت الطريق أمام الإنسانية، لقد كان مصدر الوعي بالعيش المشترك.

إن إعادة هذا الصرح من جديد إلى مسجد بعد حرمانه من ذلك طيلة قرن من الزمان تقريبًا، لا تكمن في كونه مبنى رائعًا فحسب، بل لأنه ظل محفورًا في الأذهان.

إن إحياء آيا صوفيا من جديد ينطلق عن وعي وذاكره يحملان تأثيرًا كبيرًا لا ينفك بصلته عن المسجد الأقصى الذي يقبع تحت خطر وتهديد كبيرين. كلا المعبدين كانا يمثلان السلام العثماني على مدى قرون، بينما كانت جميع الأديان تحيا في سلام واحترام تحت ظل آيا صوفيا بإسطنبول، كانت كذلك شتى الأديان والمذاهب تعيش ضمن أعلى درجات السلام والاحترام المتبادل في القدس. لقد جسّد المسلمون الذين لا يضعون فروقًا بين الأنبياء، مثالًا للعيش المشترك مع معتنقي الديانات الأخرى. هذا الفهم الذي يفتقر إليه العالم اليوم، لم يكن نابعًا آنذاك عن الضرورات السياسية أو الإجراءات والتدابير الإدارية، على العكس من ذلك؛ كان ينبع من الفهم المختزن في الذاكرة المجتمعية لهذين المعبدين.

إن المصادر العثمانية تشير إلى إنشاء علاقة مثيرة للاهتمام بين هذه المعبدين. وإن هذه العلاقة التي لا يمكن إثباتها عبر الأساليب التاريخية المعروفة، تقع في أعماق ذاكرتنا المجتمعية. تشير روايات العهد المبكر إلى أن المصادر العثمانية بينما كانت تمجّد آيا صوفيا، بدلًا من التركيز على أنّ آيا صوفيا مسجد تحوّل من كنيسة؛ فإنها تربط ما بينه وبين معبد النبي سليمان في القدس. كما يجدر بالذكر أن مصادر كانت قريبة من تلك الحقبة، مثل “أوروتش باي”، و”هيشت بهيشت”، يشيران إلى أن كلا الأثرين من منبع واحد.

وكتبسيط لفهم هذه النقطة، تشير بعض الروايات إلى أنه خلال الصورة الأخيرة التي بُني عليها آيا صوفيا تم إحضار مواد بنائية من المعبد المهدوم للنبي سليمان، كما أتم إحضار بعض رفات الأنبياء المدفونين في القدس والشام، كي يتم صهرها ودمجها في القبة الرائعة التي تزين آيا صوفيا. ومن المفيد تمامًا أن نستحضر رواية مؤرخنا الشهير بهذا الصدد، ابن كمال، حيث أشار إلى أن من بنى آيا صوفيا بصورتها الأخيرة، وضع بين كل اثني عشر من طوب البناء شيئًا نم رفات الأنبياء التي تم جلبها، وذلك من أجل أن تبقى القبة في مكانها.

الذين ينقلون لنا هذه الروايات، يدركون بالتالي العظمة والميزات المعمارية التي تتمتع بها آيا صوفيا لا سيما قبتها، والتي لا تزال تحافظ على سرها وتبهر العالم كله. لكن بدلًا من شرح ذلك بجوانبه التقنية، فإن تلك الروايات رجحت ربط العلاقة بين آيا صوفيا والقدس بطريقة أسطورية. وفي الواقع، فإن هذه المصادر لم تغفل عن سرد قضية إرسال محراب آيا صوفيا إلى القدس، خلال تحويله إلى مسجد، تاركين الوعي القائم في العلاقة بني هذين المعبدين التي سترثها الأجيال القادمة.

إن إقامة صلة وصل بين آيا صوفيا والمسجد الأقصى، وبين القدس وإسطنبول، ليس من قبيل الصدفة ولا نتيجة خيار سياسي. على العكس من ذلك، إنه انعكاس متجدد لذاكرتنا مما ورثته منذ قديم الزمان. ولذلك السبب، فإن إعادة الوظيفة الأساسية لمسجد آيا صوفيا ذلك المسجد الكبير والصرح العظيم، يعتبر بمثابة أمل سواء للعالم الإسلامي أو للإنسانية بأكملها التي تتعطش للسلام. ولن ينسى التاريخ أولئك الذين يرعون ويغذون هذا الأمل، وأولئك الذين يصرفون جهودهم في سبيل ذلك، والذين يواصلون بقاء الأمل دائمًا حيًّا.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.