أردوغان قناص بدرجة رئيس دولة

فنلندا والسويد من الحياد إلى الـ”ناتو”

 

بعد حرب الشتاء وما تبعها من حرب سميت بحرب الاستمرار استقطع الاتحاد السوفييتي أجزاء من فنلندا والسويد اللتين ارتضتا وعقدتا معاهدة صداقة وتعاون، ما شكل معها حالة سياسية انتهجها البلدان مع الاتحاد السوفييتي اثناء الحرب الباردة، وعلى الرغم من أن فنلندا أعلنت بعد سقوط الاتحاد السوفييتي أن معاهدة الصداقة والتعاون المشترك مع الاتحاد السوفييتي باطلة ولاغية بعد انهياره، وأبرمت معاهدة جديدة مع روسيا في عام 1992 تعهدت فيها الدولتان بتسوية النزاعات بالطرق السلمية، وهو ما يمكن أن ينسحب على وضع السويد مع روسيا من غير التوغل في التفاصيل، لكن لماذا تغير موقف البلدين الآن؟

والإجابة جاءت في مكالمة هاتفية أجراها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين مع نظيره الفنلندي ساولي نينستو، قبيل تقديم فنلندا رسمياً طلب الانضمام لحلف “ناتو”، حيث وصف الأخير لبوتين كيف أن التحركات الروسية وغزوها لأوكرانيا “غيّرت البيئة الأمنية لفنلندا”، وهو ما ينسحب بالضرورة على السويد التي تتشابه ظروفها مع ظروف جارتها.

وكانت الحكومة الفنلندية قد قررت التخلي عن سياسة الحياد عقب الغزو الروسي لأوكرانيا قبل أكثر من شهرين، وهو ما جعل السويد تحذو حذوها في ظل مخاوف تتزايد من تغول الدب الروسي في أراضيهما، مع تحليلات بأن الحرب في أوكرانيا إنما هي أحلام بإحياء الإمبراطورية السوفييتية القديمة، وهو ما ترجمه وزراء خارجية دول حلف “ناتو”، خلال اجتماعهم في برلين منذ أيام، حين أعربوا عن رغبتهم في تسريع وتيرة انضمام فنلندا والسويد للحلف.

وعلى الرغم من تطمينات قيصر الكرملين لنظيره الفنلندي، إلا أن ما يحدث في أوكرانيا وطول أمد الحرب، وعدم تحقيق موسكو لهدفها في التوقيت الذي أعلن قبل بدء العملية العسكرية، مع الوضع في الاعتبار تحركات واشنطن الراغبة في غرس أقدام القيصر أكثر في مستنقع حرب طويلة منهكة، جعل كلا من فنلندا والسويد يهرعان إلى قوة أكبر تتكفل بفاتورة المغامرة التي يخوضها الطرفان.

ما يحدث في أوكرانيا وطول أمد الحرب، وعدم تحقيق موسكو لهدفها في التوقيت الذي أعلن قبل بدء العملية العسكرية، مع الوضع في الاعتبار تحركات واشنطن الراغبة في غرس أقدام القيصر أكثر في مستنقع حرب طويلة منهكة، جعل كلا من فنلندا والسويد يهرعان إلى قوة أكبر تتكفل بفاتورة المغامرة التي يخوضها الطرفان

أوراق الضغط التركية في ملف انضمام السويد وفنلندا لحلف “ناتو”

قالت تركيا إنها قد تدعم مساعي السويد وفنلندا للحصول على عضوية حلف “ناتو”، وإنها تتفهم المخاوف التي تدفعهما إلى السعي لهذه العضوية. وفي مؤتمر صحفي أوضح وزير الخارجية التركي مولود جاويش أوغلو، بعد جلسة وزراء خارجية الحلف، أن مطالب فنلندا والسويد الحصول على عضوية الناتو رداً على الغزو الروسي لأوكرانيا، مشروعة وأن بلاده لن تقف أمامها، وإن استخدامها حق الاعتراض (فيتو) إنما جاء لوجود مخاوف من قبل بلاده على انضمام البلدين إلى الحلف، على الأعضاء المطالبين بالانضمام تقديم إجابة شافيه عليها.

وقد تشكل معارضة تركيا مشكلة للسويد وفنلندا في الانضمام للحلف العسكري، وهما البلدان اللذان يحتاجان ذلك بقوة في أسرع وقت في ظل تصاعد وتيرة المخاوف من روسيا الجارة التي تجمعها حدود مع فنلندا، الأكثر شعورا بالخطر من السويد التي تأتي مخاوفها من اجتياح روسيا جارتها فنلندا، ولأن الانضمام إلى عضوية الحلف يلزمه إجماع الدول الأعضاء، فإن الرئيس الفنلندي أعرب عن استعداده لمناقشة الرئيس أردوغان فيما طرح من مخاوف.

قد تشكل معارضة تركيا مشكلة للسويد وفنلندا في الانضمام للحلف العسكري، وهما البلدان اللذان يحتاجان ذلك بقوة في أسرع وقت في ظل تصاعد وتيرة المخاوف من روسيا الجارة التي تجمعها حدود مع فنلندا، الأكثر شعورا بالخطر من السويد التي تأتي مخاوفها من اجتياح روسيا جارتها فنلندا

وفي حديثه مع المراسلين الأتراك بعد اجتماع وزراء خارجية الناتو في برلين، قال وزير خارجية تركيا إن بلاده تدعو كلا من السويد وفنلندا للتوقف عن دعم الإرهابيين المقيميين فيهما، مع تقديم ضمانات أمنية واضحة لأنقرة ترفع الشكوك من وجود من تصفهم تركيا بالإرهابيين من مليشيا حزب العمال الكردستاني ومليشيات سوريا الديمقراطية التابعة للأولى، وجماعة فتح الله غولن.

وكان الرئيس أردوغان في وقت سابق قد وصف كلا من السويد وفنلندا بالملاذ الآمن للمنظمات الإرهابية، وهو كان يرد على وفود البلدين التي زارت أنقرة خلال الشهرين الماضيين بأن أخرجوا العناصر الإرهابية التي تضر بأمن تركيا كي نستطيع الجلوس.

وإن كانت رغبة أنقرة في توجيه ضربة للعناصر الإرهابية المتخذة من السويد ملاذاً لها، تضاف إليها احتمالية اصطياد صيد ثمين إن أمكن، هدفا مهما، إلا أن رفع حظر التصدير والاستيراد عن تركيا، هو هدف آخر لا يقل في أهميته عن توجيه ضربة للإرهابيين. فقد وصلت قيمة الصادرات التركية إلى السويد 1.975 مليار دولار أمريكي، فيما بلغت صادراتها لفنلندا قرابة ذاك الرقم في أوج حالات القبول التجاري بين البلدين، وهو ملف يمثل ورقة مهمة لتركيا التي تطبب اقتصادها على وقع انسحابات غربية وعربية من اقتصادها تزامنا مع الأزمة الاقتصادية العالمية وجائحة كورونا التي فاقمتها.

أردوغان قناص بدرجة رئيس دولة

عشر شروط تحدثت عنها صحيفة “صباح” القريبة من دوائر الحكم في أنقرة، للموافقة على انضمام فنلندا والسويد إلى حلف شمال الأطلسي، تضمنت توضيح البلدين موقفهما من حزب العمال الكردستاني وفرعه السوري، وإذا كانا سيصنفانهما كمنظمات إرهابية، ومن ثم التضيق عليهما وتجفيف منابع التمويل، وعدم التعامل معهما أو استضافتهما من قبل النواب والمسئولين الرسميين في البلدين، كما حدث مع زبير آيدار في برلمانات البلدين، ووقف التعامل مع القيادات الهاربة من جماعة فتح الله غولن المتهمة بتدبير الانقلاب الفاشل في 2016 ووقف أنشطة الجماعة في البلدين، وتسليم الهاربين من الجماعات التي تصنفها تركيا إرهابية، ما يعني خلق روح التعاون من أجل حفظ الأمن في تركيا، وما يعني أيضا إنشاء آلية لمكافحة الإرهاب بين البلدين وتركيا. كما تطرقت الشروط لرفع حظر تصدير السلاح من قبل البلدين لتركيا، لا سيما أن بيرقدار تعتمد في بعض مكوناتها على قطع غيار سويدية.

وكان حديث الرئيس أردوغان أمام الكتلة البرلمانية لحزبه متعدياً لتلك الشروط العشرة المنشورة، فقد تحدث عما هو أبعد من ذلك، مستفيداً من زخم الموقف وحرارة الأجواء، حيث تطرق إلى شمال سوريا ووجوب حل الأزمة بالتضافر مع الجميع، سواء عسكرياً برفع اليد عن المليشيات السورية الانفصالية، أو بإعادة توطين السوريين طوعياً بعد تأمين حياة كريمة آمنة لهم. لكن يبقى السؤال الأهم.. هل ستنجح بطاقة الفيتو التركية لتحصيل ما تراه مستحقا؟

لا يمكننا أن نخرج من معادلة صنع القرار التركي الملف الداخلي، بمعنى آخر الانتخابات، حتى ولو كان القرار متعلقا بقرار في السياسات أو العلاقات الخارجية. لكن الحقيقة أيضا تقول إن أمريكا والغرب، قبل فنلندا والسويد، في حاجة ماسة إلى دخول حلف ناتو

تقول الأسطورة إن أغلب المعارك السياسية التي خاضها الرئيس أردوغان خلال السنوات السبعة عشرة الأخيرة خرج منها فائزاً، حتى ولو حقق منها مكاسب مرحلية يبنى عليها في المستقبل القريب أو المتوسط، ولا يمكننا أن نخرج من معادلة صنع القرار التركي الملف الداخلي، بمعنى آخر الانتخابات، حتى ولو كان القرار متعلقا بقرار في السياسات أو العلاقات الخارجية. لكن الحقيقة أيضا تقول إن أمريكا والغرب، قبل فنلندا والسويد، في حاجة ماسة إلى دخول حلف ناتو، وهو ما يمكن لمسه من تصريح وزير الدفاع السويدي بأن غزو روسيا لأوكرانيا يشكل تهديداً طويل المدى للأمن الأوروبي، ذلك بعد أن قالت رئيسة وزراء السويد إنها على استعداد للذهاب إلى أنقرة للتفاهم مع الرئيس أردوغان.. انظر إلى مدى التخوفات التي تجتاح دولة ليس لديها خط تماس مع روسيا.

كما أن أمريكا، خاصة، من خلال تلك الفزاعة تريد أن تكمل سيناريو الرعب من الوحش الروسي القادم الذي سيفترس أوروبا، ذلك السيناريو الذي تستفيد منه أمريكا بإعادة طي دول أوروبا تحت إبطها بعد أن يتفلت القطيع ويدور الراعي حول نفسه يجمع شتات ما شط، بفعل سياسات ترامب الهوجاء، وهو ما يمكن فهمه من تصريح بايدن بأن انضمام فنلندا والسويد إلى حلف ناتو من شأنه تعزيز التعاون الأمني على مستوى الحلف، ما يعني أن على تركيا أن تقبل، لكن لا يعني ذلك أن واشنطن لن ترضي القوة الثانية في الحلف، والتي تراوغها بورقة روسيا.

التخلص من خصوم لا يزالون يسببون صداعاً وتلاحقهم الدولة في الداخل والخارج، وتجفيف منابعهم، سيكون صيدا ثمينا يهيئ لحالة استقرار للنظام إلى حد كبير، وإن بقيت فلولهم في دول أخرى أهمها أمريكا، التي تبحث تركيا عن مدخل لها، وإن حاولت على فترات

مكاسب تركيا المنتظرة من معركة السويد وفنلندا

يسعى القناص لحصد أكثر من هدف برمية واحدة، أولها ما يتعلق بأمنه القومي ومحاسبة المليشيات “الإرهابية” الانفصالية، وهو الملف الأهم في سلم أولويات الدولة التركية ومن ثم المواطن والناخب التركي، ملف لا تستطيع المعارضة أن تضربه فيه، وإلا ظهرت بمظهر الخائن لتراب الوطن الذي “روي بدماء الشهداء” كما يتحدث الأتراك في هذا الملف بالذات.

التخلص من خصوم لا يزالون يسببون صداعاً وتلاحقهم الدولة في الداخل والخارج، وتجفيف منابعهم، سيكون صيدا ثمينا يهيئ لحالة استقرار للنظام إلى حد كبير، وإن بقيت فلولهم في دول أخرى أهمها أمريكا، التي تبحث تركيا عن مدخل لها، وإن حاولت على فترات.

إعادة التجارة البينية مع فنلندا والسويد، ما يعني فتح أبواب قد أغلقت أمام الاقتصاد التركي، يصب مباشرة في تدفق أموال في عروق الاقتصاد بعد سياسة الأبواب المفتوحة مع الخليج، بمعنى أن رافداً آخر سيضخ في قنوات الاقتصاد، الملف الأصعب للإدارة التركية قبل الانتخابات.

وعن الانتخابات حدث ولا حرج، فالمعركة حامية والكل يلملم أوراقه وإنجازاته، والمعارضة ليس لها إنجازات حتى الآن إلا تجميع الأصوات من خلال تحالف لم يستقر على مرشح يواجه القناص، لكن الإعلام الموالي لها أو من يعمل بأجندات مناهضة لأردوغان وحزبه ويريد أن يوقف مسيرته، لا يكل ولا يمل من اصطياد أخطاء هنا أو هناك لوزرائه أو رؤساء بلدياته، مستغلين في ذلك الأزمة الاقتصادية وطول مدة الحكم، داعين إلى التغيير، لكن الأيام تثبت يوما بعد يوم أن تركيا يحكمها قناص برتبة رئيس دولة يعرف من أين يوقع بخصومه ويجني الثمار.

أردوغان قناص بدرجة رئيس دولةبواسطة / ياسر عبد العزيز

جميع المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي “تركيا الآن”
اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.