أردوغان – السيسي: مصافحة وليس مصالحة؟

حرّكت المصافحة بين الرئيسين التركي رجب طيب إردوغان ونظيره المصري عبد الفتّاح السيسي، على هامش افتتاح بطولة كأس العالم التي تستضيفها قطر، المياه الراكدة في مسار العلاقات منذ أكثر من 8 سنوات.

وُصفت صورة المصافحة “بالخطوة الأولى على طريق تطوير العلاقات” بين البلدين. لكن ظهرت اعتراضات كثيرة على توصيف ما جرى بالاختراق السياسي في ملفّات الخلاف والتباعد الكثيرة بين الجانبين.

حتماً ليس اللقاء صدفة أو عرضيّاً، بل هو إنجاز قطريّ بامتياز أشرف الأمير تميم على الإعداد له شخصياً، ولا سيّما أنّ الرئيسين قد شاركا في أكثر من لقاء إقليمي ودولي وتجنّبا الاقتراب من الممرّات والطاولات التي قد تتركهما وجهاً لوجه.

يشعر الأمير تميم أنّ لبلاده حصّة في أسباب التوتّر التركي المصري. ولذا يريد أن يشارك في دفع العلاقات بين أنقرة والقاهرة نحو الحلحلة كخطوة ردّ جميل للحليف التركي، ولأنّ الدوحة بدأت تحسين علاقاتها مع القاهرة في ملفّات إقليمية تعني تركيا وتلتقي المصالح والحسابات فيها.

لنعُد بشريط الأحداث إلى الوراء قليلاً:

– قبل انتخابات جولة الإياب في بلديّة إسطنبول في عام 2019 كان إردوغان يردّد: “هذا الأحد سنحدّد من الذي سنختاره: السيسي أم بن علي يلدرم؟”. يؤكّد هذا الكلام أنّ العلاقات التركية المصرية تقيم في قلب المشهد السياسي والحزبي والانتخابي في تركيا. تستعين اليوم أقلام في المعارضة التركية بالمثل الشعبي المعروف وهي تخاطب قيادات الحزب الحاكم: “كُلْ لقمة كبيرة لكن لا تقُل كلاماً كبيراً”.

– في أواخر عام 2021 وصل حزب العدالة والتنمية الحاكم في تركيا إلى قناعة بأنّ أصواته هو وحليفه حزب الحركة القومية تراجعت، حسب غالبية استطلاعات الرأي، بعد خسارته الموجعة في انتخابات بلديّات المدن الكبرى، وأنّه يحتاج إلى استراتيجية تحرُّك جديد في الداخل والخارج لأنّ احتمال بقائه على رأس السلطة يتضاءل ومن الصعب ذهابه إلى معركة الصناديق من جديد، من دون أن ينجز إعادة تموضع إقليمي حقيقي وإكمال خطط المصالحة مع العديد من العواصم الفاعلة في المنطقة التي توتّرت علاقات تركيا بها.

– انطلقت العجلة باتجاه الإمارات العربية المتحدة أوّلاً، ثمّ السعودية ثانياً، وجاء دور إسرائيل بعد ذلك. لكنّ ملفّ العلاقات التركية المصرية بقي يراوح مكانه على الرغم من انطلاق الحوار الاستكشافي.

– في حزيران عام 2021 قال الرئيس التركي إردوغان إنّ “مصر ليست دولة عاديّة بالنسبة إلينا، وأنقرة تأمل تعزيز تعاونها مع القاهرة على أساس نهجٍ يحقّق الفائدة للجميع.. لدينا إمكانات كبيرة للتعاون مع مصر في نطاق واسع من المجالات”.

لم يتأخّر ردّ وزير الخارجية المصري سامح شكري، فقال: “الأرضية التي تؤهّل عودة العلاقات إلى طبيعتها مرتبطة بحدوث تغيير حقيقي في السياسة التركية يتماشى مع الأهداف المصرية لاستقرار المنطقة وعدم التدخّل في الشؤون الداخلية للدول”.

– جولتان من الحوار الاستكشافي في حزيران وأيلول من العام المنصرم من دون تحقيق أيّة نتائج تحرِّك مسار الحلحلة والانفراج. كان العكس هو الصحيح. فقد أعلن الوزير شكري، بعد أشهر من الجمود، أنّ تركيا لم تقُم بأيّ تغييرات من شأنها أن تُساهم في تطوير العلاقات مع مصر. فردّ نظيره التركي شاووش أوغلو أنّ عقبة تطبيع العلاقات بين البلدين ليست في الجانب التركي.

– عند انتهاء جولة الإياب من المحادثات في أنقرة مطلع أيلول من العام الماضي، تراجعت الحماسة ولم يظهر الدخّان الأبيض من مدفأة قاعة الاجتماعات، إذ كان حجم التباعد كبيراً ومتشعّباً. عند هذا الحدّ، كما يبدو، يدخل الأمير تميم على الخطّ. لا شكّ أنّ قطر لم تنظّم تصفيات بطولة كرة القدم العالمية لتسهيل لقاء الرئيسين إردوغان والسيسي، لكنّ الدوحة أرادتها فرصة لإنجاز هذا الاختراق السياسي الدبلوماسي، وقد أعدّت له مسبقاً بدقّة وعناية، وبالتنسيق مع الطرفين كما يبدو.

قرّرت الدوحة استغلال الفرصة على طريقتها، ومهّدت لذلك باتصالات مع أنقرة والقاهرة بعيداً عن الأضواء مقنعةً الرئيسين بقبول الجلوس إلى طاولة حوار عمليّة وسريعة بحضور الأمير تميم، وكان لها ما تريد.

لكلّ طرف أسبابه ودوافعه إلى الإقدام على خطوة من هذا النوع. المصالح العليا للبلدين هي العامل المحرّك الأوّل. لكنّ المتطلّبات الداخلية السياسية والاقتصادية، والمتغيّرات الحاصلة في أكثر من ملفّ استراتيجي ذي طابع إقليمي ودولي، هي أيضاً في طليعة أسباب هذا التحوّل. المصافحة أمام الأعين مهمّة، لكن ما هو أهمّ بكثير هي جلسة “الدردشة” الثلاثية التي لم يعلَن عنها بين الرئيسين بحضور الأمير تميم وما تخلّلها من نقاش ومحاولة دفع الأمور نحو مسار جديد في العلاقات.

بين الأهداف والتطلّعات التفاهم على صيغة علاقات جديدة تُبنى على أرضية مستدامة وعلى أساس الاحترام المتبادل للحساسيّات والمصالح المشتركة. “ما دامت القيم محترمة فإنّ المنطقة برمّتها ستخرج رابحة من الدبلوماسية القائمة على الربح المتبادل”. هذا ما نسمعه في أنقرة والقاهرة اليوم.

يدرك اللاعبان، التركي والمصري، في ضوء التوازنات الإقليمية الجديدة، أنّهما قادران على تغيير مجرى معادلات كثيرة، للدفاع عن مواقعهما ومصالحهما المشتركة في المنطقة، وأنّ ذلك يخدم عواصم عربية وإقليمية عديدة في مواجهة الصعود الإيراني والنفوذ الإسرائيلي.

تستدعي تفعيلَ هذا الحوار تطوّراتٌ سياسية وأمنيّة واقتصادية دولية، إضافة إلى المناخ الإقليمي الذي يتغيّر، ومن شأن ذلك أن يحفّز أكثر تسريع التفاهمات.

يقول المتحدّث باسم الرئاسة المصرية السفير بسام راضي إنّه تمّ التوافق على أن يكون اللقاء بين السيسي وإردوغان “بدايةً لتطوير العلاقات الثنائية بين الجانبين”. ويعلن إردوغان أنّه يأمل “نقل المرحلة التي بدأت بين وزرائنا إلى نقطة جديدة لاحقاً عبر محادثات رفيعة المستوى”. في كلامه هذا يكشف إردوغان النقاب عن خارطة طريق بين أنقرة والقاهرة لم تتّضح أوراقها بعد.

إعلام القاهرة يقول: “هي مصافحة لا مصالحة”. أمّ العروس لا تغيّر معالم وجهها إلا صباح اليوم التالي، وهذا ما ينتظره الداخل التركي من مصر”.

المصافحة مهمّة طبعاً. ما قيل قبلها مهمّ أيضاً. لكن ما سيقال بعدها أهمّ بكثير. كانت التفاهمات على إطلاق خطوات باتجاه تسريع الحوار واللقاءات للخروج من وضعية “الاستكشاف” التي لم تحقّق أيّ تقدّم فعليّ باتجاه الحلحلة. احتمال كبير أن يكون الرئيسان قد بحثا واتّفقا على سيناريو من يزور أوّلاً ومتى يكون ذلك. لكنّ الخطوة التي ستسبق هي لقاء وزير الخارجية التركي بنظيره المصري. أين وكيف سيتمّ ذلك؟ يأتي سامح شكري إلى أنقرة معزّزاً مكرّماً مثلاً، ثمّ يقصد إردوغان القاهرة بحفاوة رسمية وشعبية.

استدعت “فوتو” الدوحة كتابة عشرات المقالات في الداخل التركي، وتوزّعت بين مرحّب وداعم، ومنتقد نادم، وشامت على أخطاء السياسة الخارجية المرتكَبة في العقد الأخير التي حمّلت تركيا الكثير من الأعباء والتكاليف. سارعت الأصوات المعارضة أو الشامتة إلى رفوف الأرشيف لتذكير إردوغان وحزبه بما كانا يردّدانه قبل 8 سنوات من كلام عمّا يجري في مصر ومن مواقف حيال التطوّرات السياسية هناك. هل كانت ضروريّةً كلّ تلك المواقف من القيادات المصرية التي تقود البلاد اليوم؟ وهل أخذت أنقرة ما تريده بعد كلّ التشدّد والتصعيد كما تقول بعض الأقلام المعارضة؟

انقسم الداخل التركي بغالبيّته مرّة أخرى بعد انتشار صورة المصافحة التركية المصرية، ليس اعتراضاً على الصورة، بل على قطيعة طويلة وتصعيد مكلف ينتهيان عند العودة إلى خطّ البداية.

من سيتحمّل المسؤولية عن ذلك؟ هو السؤال الذي ستطارد به قوى المعارضة التركية قيادات الحزب الحاكم حتى يوم الصناديق. حتماً سيتحوّل إلى انتصار سياسي كبير نجاحُ إردوغان في تسريع التطبيع والمصالحة مع القاهرة. فهل تعطيه القاهرة فرصة تجيير نتائج حوارها معه إلى أوراق قوّة رابحة، بدءاً من مراجعة تحالفاتها في شرق المتوسط مع اليونان وقبرص اليونانية وخطط ترسيم الحدود البحرية والطاقة هناك مثلاً، أم تلجأ إلى حسابات الورقة والقلم قبل الإقدام على خطوة بهذا الاتجاه وتتريّث إلى ما بعد انتهاء الانتخابات التركية توافقاً مع ما أعلنه الرئيس التركي من تأخير مسألة الحلحلة مع النظام السوري إلى ما بعد نتائج الانتخابات في تركيا؟

ينبغي أن تكون حبال السياسة دائماً تحت الحماية، إذ لا أحد يعرف متى يحتاج اليها.

 

بواسطة / سمير صالحة

 

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.