كيف يرى الأتراك العملية العسكرية في عفرين؟

في يوم السبت 20 يناير/كانون الثاني، قصفت طائراتٌ تركية محافظة عفرين الخاضعة لسيطرة وحدات حماية الشعب الكردية في شمال غربي سوريا. لم يكن القصف الجوي، بالإضافة إلى قصفٍ مدفعي سابق لمواقع وحدات حماية الشعب، سوى تمهيدٍ للعملية البرية التي أطلق عليها الجيش التركي “عملية غضن الزيتون”، والتي بدأت في اليوم التالي.

ومنذ ذلك الحين، يراقب العالم التدخل العسكري التركي في شمالي سوريا. كذلك يبدو واضحاً في تغطية وسائل الإعلام الرئيسية وحجم التفاعل الهائل على شبكات التواصل الاجتماعي، أنَّ نسبة كبيرة من الأتراك تؤيد العملية، فضلاً عن أغلبية الأحزاب السياسية في البلاد، إلا أن ذلك لم يمنع تصاعد الجدل حول العملية العسكرية الواسعة.

911384460

إصرار حكومي تركي على العملية

منذ اللحظة الأولى، أعلن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان عن إصراره إبقاء قواته على الأرض حتى تحقيق الأهداف الأولية للعملية. فقد قال بوضوح: “لن تتراجع تركيا خطوةً واحدة في عملية عفرين”.

وفي نفس السياق ذكر بن علي يلدريم، رئيس الوزراء التركي، أنَّ عفرين ستُطهَّر من جميع التنظيمات الإرهابية، وأنَّ هناك منطقة أمنية بعمق 30 كيلومتراً ستُقام على الجانب الآخر من الحدود التركية.

ولا شك في أنَّ رأي أنصار حزب العدالة والتنمية ليس مختلفاً عن رأي قادته، وفي ظل التهديد المتصوَّر الذي يُشكِّله حزب العمال الكردستاني، فإنَّهم كذلك يتمنون انتصار الجيش التركي بعفرين. وانعكاساً لهذا الدعم الكبير، أمرت إدارة الشؤون الدينية في تركيا بتلاوة سورة الفتح قبل صلاتيّ الفجر والعشاء، وبعدهما، لدعم القوات التركية على الأرض من الناحية الروحانية. وبَرَزَ أحد المشاهد الأخرى في هذا الصدد، حين ألقى إمام أحد أكبر المساجد في مدينة إسطنبول التركية خطبةً عاطفية لتأييد العملية ضد “الخونة” الذين يقاتلهم الجيش التركي.

لكن بعض المنتمين إلى التيار الإسلامي انتقدوا الاستخدام المُكثَّف للمصطلحات والوسائل الدينية منذ بداية عملية غضن الزيتون، ورغم ذلك يبدو أنَّهم يشكلون أقليةً، وأنَّ ردود الفعل الحادة تعكس المشاعر الحالية لمعظم المنتمين إلى التيار الإسلامي.

كيف تبرر الحكومة رغبتها في السيطرة على عفرين؟

هذه المشاعر لا تقتصر على الإسلاميين الأتراك، فطالما اعتُبِرت وحدات حماية الشعب- الجناح المُسلَّح لحزب الاتحاد الديمقراطي والمنتسبة إلى منظمة حزب العمال الكردستاني المنخرطة في نزاعٍ مع تركيا منذ عقود- خطراً كبيراً على أمن الحدود التركية.

وفضلاً عن ذلك، كانت هناك مخاوف كبيرة من احتمالية وصول وحدات حماية الشعب إلى البحر المتوسط. وفي ظل هذه المخاوف، كان الهدف الرئيسي للسياسة التركية الخارجية في سوريا على مدار السنوات الأخيرة هو إبقاء المناطق الخاضعة لسيطرة وحدات حماية الشعب مُجزَّأةً وغير مطلةٍ على البحر بدلاً من إسقاط بشار الأسد رئيس النظام السوري.

وكانت هناك حقيقةٌ كامنة وراء هذه المخاوف، مفادها أنَّ وحدات حماية الشعب أصبحت بدرجةٍ متزايدة هي الشريك المحلي الرئيسي للولايات المتحدة في المعركة ضد تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، لا سيما في ظل كسر الحصار الذي كان التنظيم يفرضه على مدينة كوباني الكردية في أوائل عام 2015. إذ نقلت الولايات المتحدة مواردها التي كانت مُخصَّصة لجماعات المعارضة السورية تدريجياً إلى وحدات حماية الشعب.

وفي الوقت نفسه، تزايد قلق تركيا بعد انهيار عملية السلام مع الأكراد في تركيا عام 2015. ولذلك، شعرت تركيا بالخطر في هذه الآونة الجديدة، لكنَّها تمسَّكت بأملها في تضاؤل فائدة وحدات حماية الشعب بالنسبة للولايات المتحدة فور هزيمة تنظيم داعش في سوريا والعراق.

ومع ذلك، لم تسر الأمور على هذا النحو، بل شهدت أنقرة بمرور الوقت تطوَّر الشراكة بين الولايات المتحدة ووحدات حماية الشعب إلى تحالفٍ أكثر استراتيجيةٍ وليس مُجرَّد زواجٍ مؤقت. وأصبح التعاون الروسي الوثيق مع وحدات حماية الشعب والدعم الروسي لها -وإن لم يكن دعماً كاملاً- عاملين آخرين مثيرين للقلق من وجهة نظر تركيا.

وقبل عملية غصن الزيتون، كانت تركيا قد نفَّذت بالفعل عمليتين عسكريتين في سوريا استهدفتا وحدات حماية الشعب: عملية درع الفرات، في شهر أغسطس/آب من عام 2016 التي مكَّنت تركيا من منع إقامة اتصالٍ بري بين المقاطعات الكردية السورية، وعملية دخول تركيا العسكري إلى مدينة إدلب التي نجحت في وقف توسُّع وحدات حماية الشعب نحو الغرب باتجاه البحر.

كذلك يحاول المسؤولون الأتراك الحد من استفزاز الأكراد من خلال التأكيد على أنَّ عملية غصن الزيتون ليست مُوجَّهةً ضد الأكراد السوريين بل وحدات حماية الشعب فحسب، وأنها تتفق مع القانون الدولي. فمثلاً، قال إبراهيم كالين، المتحدث باسم الرئاسة التركية، إنَّ “تحرُّكات تركيا لحماية أمنها القومي ليست موجهَّة (بالتأكيد) ضد الأكراد السوريين”.

المعارضة التركية لا تعارض هذه المرة

قال كمال كيليتشدار أوغلو، زعيم حزب الشعب الجمهوري CHP الذي يُعَد أكبر حزبٍ تُركي مُعارِض، في مؤتمرٍ صحفي مشترك مع يلدريم رئيس الوزراء: “كان اجتماعاً مثمراً للغاية. إنَّ لجوء الدولة إلى عملية غصن الزيتون ضرورةٌ حتمية. أتمنى أن تكتمل العملية بلا أي ضررٍ كبير”. ومع أنَّ سيزغين تانري كولو أحد نواب رئيس الحزب نشر التغريدة التالية على حسابه على موقع تويتر بعد إطلاق عملية غصن الزيتون وأعرب بوضوحٍ عن معارضته العملية، يبدو أنَّ أغلبية القاعدة الاجتماعية للحزب تتفق مع رأي زعيمه.

أما دولت بهتشلي، زعيم حزب الحركة القومية، MHP رابع أكبر حزب معارض في البرلمان والمُمثِّل الرئيسي للقوميين، فقد تبنى ربما أقسى الخطابات بشأن العملية: “إمَّا أن تُدمَّر عفرين أو يُحرَق الإرهابيون”. وبهتشلي معروف بأنَّه على نفس الخط مع قرارات أردوغان منذ فترة، لكن بدا في تلك الحالة أنَّه تجاوز حتى أردوغان!

ونظَّم تنظيم “الذئاب الرمادية”، وهو بمثابة الفرع الشبابي التابع لحزب الحركة القومية، فعاليات لتلاوة القرآن في العديد من المدن، لدعم الجيش التركي معنوياً، وهذا التنظيم نشط للغاية وينشر أفراده باستمرار منشوراتٍ داعمة على الشبكات الاجتماعية.

ويدعم حزب الخير Iyi Party ، الحزب المُؤسَّس حديثاً على يد سياسيين بارزين مُنشقِّين في أغلبهم عن حزب الحركة القومية، ويمتلك بالتالي 5 مقاعد في البرلمان ويقع في الجانب القومي من الطيف السياسي، هو الآخر عملية غصن الزيتون بحماس. فلم تنشر الرئيسة المؤسسة للحزب، ميرال أكشينار، رسالة داعِمة للعملية فحسب، بل وعبَّر بعض القادة البارزين الآخرين عن دعمهم الحار. ما يثير الاهتمام هو أنَّ أيتون شيراي، المتحدث باسم الحزب، اقترح على الحكومة التركية أن تعمل مع الأسد.

على الجانب الإسلامي من السياسة، وتحدث تمال قره موللا أوغلو، زعيم حزب السعادة التركي المعروف بكونه حزب الزعيم الإسلامي الراحل نجم الدين أربكان، عن دعم حزبه التدخُّل العسكري في عفرين، شريطة أن تجري العملية بحذرٍ كبير لتجنُّب أي ضرر بحق المدنيين والانتهاء منها في أقرب فرصة ممكنة. كانت تغريدة على أقطاس، المحامي الشهير الذي يُعَد واحداً من أكثر أعضاء حزب السعادة شعبية، مثيرة للاهتمام هي الأخرى. فرغم دعمه للعملية لأسبابٍ سياسية واستراتيجية، انتقد المصطلحات الدينية التي استُخدِمَت بصورة مكثفة، وبالتالي إثارة المشاعر الإسلامية في السياق الخاطئ من أجل تبرير العملية العسكرية. وبطبيعة الحال لا يمكننا اعتباره الصوت المُمثِّل للحزب، لكن مع ذلك لا بد من ملاحظة نهجه من أجل رؤية انزعاجه الملحوظ.

ولم يتردَّد دوغو برينتشك، رئيس حزب الوطن الذي يمكن تصنيفه كحزب “قومي يساري متشدد”، في منح دعمه الحار للعملية عبر التغريد قائلاً: “قلوبنا تخفق للمحمديين، سيكون النصر حليفاً للجيش التركي” (المحمديون هو لفظ يستخدمه المجتمع التركي لوصف الجنود الأتراك). وبما أنَّ برينتشك معروف بوقوفه إلى جانب الجيش التركي في جميع الحالات، لم يكن دعمه مفاجئاً.

ليس للجيش رأي آخر

وكما هو مُتوقَّع، تقف الدوائر العسكرية خلف العملية. ولعل أبرز رسالة جاءت من الجنرال إلكر باشبوغ، رئيس الأركان السابق، لأنَّه أشار على الحكومة التركية بالعمل مع الحكومة السورية من أجل عملية غصن الزيتون.

وبالحديث عن الجيش، أصبحت التغريدة التالية على حساب قوات الجندرمة الرسمي رائجة للغاية، لأنَّها مثَّلت دليلاً على تحوُّلٍ عميق داخل الجيش التركي.

https://twitter.com/jandarma/status/954797810964148224

وقد جاء في هذه التغريدة بعض أبيات الشعر التي تستخدم مصطلحاتٍ إسلامية تماماً، وحتى سنواتٍ ماضية لم يكن ذلك مُتصوَّراً بسبب التوجُّه العلماني المتطرف الذي كان يُظهِره الجيش.

أخيراً وليس آخراً، نشرت بعض الأقليات رسائل داعِمة لعملية غصن الزيتون. وكانت الرسائل الداعِمة من الطائفتين الأرمنيةواليهودية جديرتين بالملاحظة.

هل هناك أي أحزاب ضد “غصن الزيتون”؟

برغم ما يبدو من دعمٍ عام واسع لعملية غصن الزيتون، لا تزال هناك بعض الأحزاب التي تعارضها. يُعَد حزب الشعوب الديمقراطي، ثالث الأحزاب السياسية في البرلمان والذي تتألف قاعدته الاجتماعية بالأساس من المواطنين الأكراد وبعض الدوائر اليسارية، حتى الآن هو أقوى المعارضين للعملية. ويصف البيان الرسمي للحزب عملية غصن الزيتون بأنَّها “محاولة غزو”. وبالنظر إلى تقارب حزب الشعوب الديمقراطي وحزب العمال الكردستاني ووحدات حماية الشعب الكردية، لم يكن ذلك رداً مفاجئاً.

وإلى جانب حزب الشعوب الديمقراطي، تُعَد معظم الأحزاب والمجموعات السياسية اليسارية منتقدين بارزين للعملية بحجة أنَّها “تُعارِض أي حرب”. وتُظهِر السياسة التحريرية لبعض وسائل الإعلام اليسارية كصحيفة بيرغون وبوابة سول هابر الإخباريةموقف هؤلاء بوضوح.

وانتقد بعض المفكرين الليبراليين البارزين أيضاً التدخُّل العسكري بشدة. وكان مبررهم الأساسي هو أنَّهم ضد الحرب من الناحية الأخلاقية. بالإضافة إلى ذلك، يشعرون بالقلق لأنَّ جهود وآمال حل “المسألة الكردية” ستتضرر بشدة في حال نُفِّذت عملية كتلك. وعزَّز احتجاز الصحفية نورجان بايسال ليومين بسبب تغريداتها المزعومة ضد عملية غصن الزيتون (وصفت في تغريداتها داعمي عملية غصن الزيتون بأنَّهم “فاشيون عنصريون”) أيضاً قلقهم لأنَّ نورجان معروفة بأنَّها ناشِطة تعمل على المسألة الكردية ولديها صلات وثيقة بأعضاء حزب الشعوب الديمقراطي في البرلمان.

ومؤخراً، وقَّع 170 مفكراً وفناناً وسياسياً سابقاً وناشطاً (لا يُعتبَر جميعهم ليبراليين لكن يبدو أنَّهم يتشاطرون الأفكار نفسها في اللحظة الراهنة) عريضة للتعبير عن مخاوفهم. ووفقاً لما يقترحونه، ليست الوسائل العسكرية هي الحل الأمثل، وبدلاً من ذلك كان لا بد من استخدام الوسائل الدبلوماسية. لكنَّ كافة الرموز الليبرالية البارزة كانت في نفس الجانب. على سبيل المثال، يرى إيتيان ماهوشبيان، أحد المفكرين الليبراليين المشهورين ويعمل حالياً كاتب عمود بصحيفة قرار، أنَّ عمليةً عسكرية كتلك مُتطلَّبة وحتمية، بالرغم من أنَّه لا يزال مُنتقِداً لسياسات الحكومة السابقة التي أوصلت تركيا إلى هذه المرحلة.

أما خارج تركيا، فقد احتج المئات من الأكراد والأتراك في مدن مختلفة بأوروبا، وتحديدًا في فرنسا وألمانيا.

911140404

الشرطة الفرنسية تقف أمام تظاهرة في ليون بفرنسا اعتراضًا على عملية عفرين
 

وحتى الآن، يبدو أنَّ القوات التركية وفصائل الجيش السوري الحر التي تقاتل على الأرض بالتنسيق مع الجيش التركي قد أحرزت نجاحاً. ولم يتضح بعد اتجاه العملية بالضبط، ولكن من المُتوقَّع أن تُحرِّر تركيا عفرين من وحدات حماية الشعب في أقرب وقتٍ ممكن، وتؤدي إلى تشكيل إدارةٍ محلية جديدة حتى الصيف المقبل. ومع أنَّ وزير الخارجية التركي مولود جاويش أوغلو أشار مؤخراً إلى أنَّ الخطوة التالية من عملية غصن الزيتون ستكون الاستيلاء على مدينة منبج السورية، الواقعة شرقي نهر الفرات، والخاضعة لسيطرة قوات وحدات حماية الشعب المدعومة من الولايات المتحدة، هناك شكوكٌ حول إمكانية تنفيذ ذلك.

ختاماً، من الواضح تماماً أنَّ الرأي العام في تركيا داعم بأغلبية ساحِقة لعملية غصن الزيتون، على الرغم من معارضة بعض الأحزاب والدوائر والمفكرين السياسيين لها. علاوة على ذلك، كلما تقدَّم الجيش التركي أكثر تجاه عفرين كلما ازداد الدعم الشعبي للعملية.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.