تركيا.. حلم يتحقق بعد ستة عقود

احتدمت النقاشات في الأيام أخيرة بتركيا حول ثلاثة تطورات هامة، سيطرت على أحاديث المواطنين، وتصريحات المسؤولين، وتقارير وسائل الإعلام، وهي: توقيع اتفاقية رسم الحدود البحرية واتفاقية التعاون العسكري مع ليبيا، واستكمال اللمسات الأخيرة لخطة قناة إسطنبول قبل البدء في تنفيذ المشروع، وكشف النقاب عن السيارة المحلية التي طال انتظارها.
وقبل الانتقال إلى التفاصيل، لعله من الأفضل أن نتذكر ما قاله رئيس الوزراء التركي الأسبق، عدنان مندريس، قبل سنوات في إحدى تصريحاته.

فقد شن مندريس، في تلك التصريحات، هجوما لاذعا على حزب الشعب الجمهوري، لأنه كان يرفض جميع المشاريع التنموية التي أراد الحزب الديمقرطي إنجازها لخدمة الوطن والمواطنين. ويشير مندريس إلى أن حزب الشعب الجمهوري يعادي التنمية في تركيا منذ زمن بعيد، ويتساءل: “هل اهتموا بأي نجاح في البلاد وتحدثوا عنه؟ وهل التفتوا إلى أي من الألف إنجاز وإنجاز من ثمرات ذكاء الشعب التركي وجهوده؟ وهل أظهروا فضل التبني لأي شيء جميل يعود إلى الشعب التركي؟ كلا! بل بذلوا جهودا حثيثة منذ سنين لتصوير كل نجاح ككارثة، وكل إنجاز رائع كخسارة”.

النقاشات الدائرة حول الملفات الثلاثة المذكورة، تكشف أن العقلية التي عانى منها مندريس قبل عقود، ما زالت تراوح في مكانها، وترفض المشاريع التنموية بحجج واهية، وتحتقر الإنجازات المحلية، في مقابل الإعجاب المبالغ فيه بكل ما يعود إلى الدول الغربية، مؤكدة أن عين تلك العقلية عن عيوب المنتجات الغربية كليلة، إلا أنها تبحث عن أي شيء يمكن  إظهاره كأحد مساوئ المنتجات المحلية.

تركيا اقتربت أخيرا من تحقيق حلم إنتاج سيارة محلية، بعد أن فشلت محاولتها الأولى في بداية ستينيات القرن الماضي، وكشفت الجمعة عن نموذجين للسيارة المحلية، بحضور رئيس الجمهورية التركي رجب طيب أردوغان الذي قام بقيادة السيارة خلال مراسم التعريف بها. وحظيت السيارة التي تعمل بالطاقة الكهربائية بإعجاب كثير من المواطنين والخبراء، ولكن أصحاب عقلية حزب الشعب الجمهوري حاولوا التقليل من شأن هذا الإنجاز التاريخي، باستخدام أسلوب السخرية أحيانا، ونشر الشائعات والمعلومات الكاذبة عنه في أحيان أخرى.

“دوريم”، أي “الثورة” بالعربية، أول سيارة محلية أنتجتها تركيا عام 1961، ووراءها قصة حزينة تحكي ما عانت تركيا من عقلية حزب الشعب الجمهوري، والوصاية المفروضة آنذاك على البلاد. وكان المعارضون لإنتاج سيارة محلية يدعون إلى إنتاج الخوخ بدلا من إنتاج السيارة. بل ذهب كاتب مقال منشور في صحيفة “جمهوريت” المقربة من حزب الشعب الجمهوري، إلى أبعد من ذلك، فدعا الحكومة التركية إلى إنشاء “مصانع البيرة”، بدلا من إنشاء مصنع لإنتاج السيارة، بحجة أن إنتاج السيارة المحلية غير مربح في تركيا.

المهندس كمال الدين واردار، أحد العاملين في إنتاج سيارة “دوريم”، تحدث قبل أيام إلى وسائل الإعلام عن العراقيل التي وضعت أمام الفريق المكلف بإنتاج السيارة المحلية في ذاك الوقت، ولفت إلى نقاط هامة تساعد المتابعين للتطورات المتعلقة بالموضوع في فهم حقيقة الأطراف المعارضة لهذا الإنجاز.

وقال واردار إن غرفة المهندسين المكانيكيين كان المتوقع منها آنذاك أن تدعم المشروع، إلا أنها أعلنت رفضها. وأشار إلى أن الشركات المستوردة للسيارات صمتت طوال الوقت، ولم تظهر أي معارضة للمشروع، على الرغم من أن المستوردين للسيارات كانوا سيخسرون أموالا طائلة، لو كان المشروع قد نجح. وهنا ذكر أن المستوردين للسيارات هم الذين لعبوا أكبر دور في عرقلة المشروع، إلا أنهم عملوا بصمتٍ وراء الستار، من خلال تحريض الآخرين.

السيارة المحلية ستخرج إلى شوارع تركيا عام 2022، إن شاء الله، ولكن عدد الطلبات المقدمة لشرائها  تجاوز حتى الآن 120 ألف سيارة. وتتسابق قوات الدرك والشرطة، والبلديات، والجامعات، وغيرها، في طلب شراء عدد من السيارة المحلية، ما يعني أن شركات السيارات الألمانية والفرنسية والإيطالية المنتشرة في تركيا ستتراجع مبيعاتها إلى حد كبير.

الأتراك لديهم أمل كبير في نجاح التجربة الثانية التي جاءت بعد حوالي ستة عقود من فشل التجربة الأولى لإنتاج السيارة المحلية؛ لأنهم يرون أن تركيا تغيرت كثيرا، ولم تعد تلك البلاد المستسلمة لقوى الوصاية. ولكنهم في ذات الوقت يشعرون بنوع من القلق من أن يعيد التاريخ نفسه، في ظل صمت الشركات المستوردة والمصنعة للسيارات الأجنبية، وتحرك أطراف أخرى من أجل عرقلة المشروع وتشويه الإنجاز.

.
تركيا.. حلم يتحقق بعد ستة عقود
بواسطة / إسماعيل ياشا
اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.