الطريق الملغوم

كان من الطبيعي أن يكون مقتل الجنرال الإيراني قاسم سليماني أمس 3 يناير/كانون الثاني، إثر ضربة أمريكية في العاصمة العراقية بغداد؛ حدثًا ينشغل به العالم كله. قبل الخوض ببعض التعليقات المفرطة من قبيل “بدأت الحرب العالمية الثالثة”، دعونا نُجِب على سؤال “من هو قاسم سليماني؟”.

اشتغل قاسم سليماني بقيادة فيلق القدس الذي يتبع بشكل مباشر لقيادة الثورة الإسلامية في إيران منذ العام 1988، ولقد عمل على زيارة نشاطاته في العراق لا سميا منذ الاحتلال الأمريكي لها، إضافة إلى كل من سوريا ولبنان. لقد استطاع سليماني أن يكون وجه الجبهة في إيران، وذلك من خلال الدعم القوي الذي كان يلتقاه من الزعيم الديني الإيراني آية الله علي خامنئي، إثر تدريبه الميليشيات شبه العسكرية مستخدمًا العديد من القدرات الاستراتيجية التي جعلته يقتحم الصفوف العسكرية والسياسية معًا. بعد بدء مرحلة الاضطرابات الإقليمية التي عاشتها المنطقة بفعل ما يسمى “الربيع العربي”، قام سليماني شخصيًّا بقيادة الحروب ضد المعارضة، ولقد استفاد بطريقة احترافية من وجود داعش، حيث انتقل إلى الصفوف الأمامية لمحاربتها. بينما كان الإعلام العالمي يصر منشغلًا بنشر قصف أهداف داعش في سوريا والعراق، نتذكر ونذكّر أن الوضع القائم آنذاك والذي لم يكن يتغير هو؛ يشن التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة حملات القصف على المناطق المأهولة بالسكان ليقلبها رأسًا على عقب، ومن ثمّ يظهر سليماني ماشيًا على جثث الآلاف من المدنيين وهو يرسم على وجهه ابتسامة النصر.

من الممكن أن نتساءل لماذا لم تقم الولايات المتحدة في ذلك الوقت، بالقضاء على سليماني الذي تعتبره عدوًّا لها؟. إدارة أوباما التي كانت تفكر بمنطق فتح مساحة أكبر لإيران في الشرق الأوسط وترويض إيران كي تدخل تحت “النظام”، طمعًا في تخفيف النيران المشتعلة في المنطقة؛ لكن هذا المنطق في نهاية المطاف تسبب بزيادة نشر النفوذ الإيراني في المنطقة بل في الشرق الأوسط بأكمله. كانت استراتيجية واعية في الواقع، خلق فزاعة من إيران في العالم العربي، ودفعه للمزيد من عمليات التسليح، وبالتالي مواصلة استعمار العالم العربي عبر فزاعة إيران، وتركه عرضة لمواجهة نشاطات التشيع وجهًا لوجه، وتعميق فرقة العالم الإسلامي، وصولًا للعديد من المكاسب عبر ذلك المنطق الذي اتخذه أوباما.

تحرّك وتقدم سليماني ضمن المنطقة المفتوحة لإيران، وفق طريقة ممنهجة ومبرمجة، حتى أصبح المنفذ الرسمي لسياسة بلاده القومية والطائفية. ومن جهة اخرى، كان بممارساته غائبًا عن عيون الإعلام

من ناحية أخرى ، فإن عشرات المذابح وعمليات الحصار وانتهاكات حقوق الإنسان التي ارتكبتها الميليشيات التي يسيطر عليها سليماني، ظلت بعيدة عن أنظار الإعلام الغربي الذي طالما نقوم بتفخيمه.

باستخدام جوع السكان المدنيين كتكتيك للحرب، ضمن السليماني إعادة السيطرة على العديد من المناطق في سوريا. إنّ المشاهد السريالية التي يحاول فيها الناس البقاء على قيد الحياة عن طريق أكل الأعشاب ولحوم القطط هي في ذاكرة قلة قليلة من الناس اليوم. لقد استخدموا قوة شعار القدس دائمًا ضد المسلمين فحسب. والولايات المتحدة فقد ظلت تراقب تلك المرحلة وهي سعيدة.

أما إدارة الرئيس الأمريكي ذات النمط المفاجئ حيث يترأسها شخصية مثل ترامب، فيبدو أنها خلال الآونة الأخيرة قررت إفساد العلاقات غير المعلنة والمستمرة لسنوات ما بين الولايات المتحدة وإيران. الشيعة السياسية لم تتصرف بشكل عاقل في المنطقة، حسبما تعرض مؤسسات الفكر في واشنطن، عبر تقاريرها.

يمكن القول إن صح التعبير، أن ترامب حينما أدراك فساد أو عدم جدوى السياسة الأمريكية القائمة على ترويض إيران وجلبها نحو نقطة نظام، بدأ يتصرف بشكل مستقيم. في الحقيقة إن الوقت قد مضى كثيرًا في الواقع من أجل إيقاف إيران، ونجد ترامب قد عيّن الكثيرين هدفًا لذلك، وأخيرًا يأمر باغتيال سليماني؛ بسبب الهجوم على السفارة الأمريكية في بغداد.

المثير في الأمر أن محاولة قاسم سليماني استهداف السفارة الأمريكية في بغداد، لم يكن يعدو محاولة رد ضد “الشيطان الأكبر” الكلاسيكي، إثر التحركات المتزايدة مؤخرًا نحو إيران. لقد عمل سليماني طيلة حياته في طريق تأسيس امبراطورية فارس العظيمة، ولقد قضى من أجل ضلك ومن أجل مصلحة بلاده إيران. (هذا موجود ضمن خطابات قاسم سليماني).

من مفارقات القدر، أن قاسم سليماني فارق الحياة بنفس المصير الذي لاقاه مئات الآلاف في سوريا والعراق؛ تناثر جسده متمزقًا إثر القصف. ولم يتعرف على جثته إلا من خلال الخاتم الذي كان يلبسه بأصبعه. ولعمري هذه عبرة كبيرة لمن يريد أن يبصر. هذا يعني السير مع الولايات المتحدة، أن تخطو خطوات على أرض ملغومة. لكن استغرق الأمر وقتًا طويلًا بالنسبة لسليماني كي يدوس على اللغم.

أخيرًا:

هناك نظرة تختصر كل الانتقادات التركية نحو إيران، على أنها إما مذهبية أو متأمركة، لكن حين النظر إلى التطورات على هذا الصعيد وبطريقة موضوعية، فمن الممكن أن نرى بوضوح من المخطئ في ذلك ولأي مدى.

.

طه كلينتشبواسطة/ طه كلينتش

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.