معركة تركيا ضد كورونا منذ البدايات المبكرة وإلى الآن

من المرجح أن تؤدي حالات تفشي فيروس كوفيد-19 في جميع أنحاء العالم إلى أزمات سياسية واجتماعية واقتصادية، ستتبعها غالباً تحولات كبيرة على كافة الصعد، إضافة إلى عواقب وخيمة أخرى. ومن الصعب التكهن ما إذا كان عالم ما بعد الفيروس يشبه عالم ما قبله، خصوصاً إذا استمر المرض في حصد المزيد من الأرواح. كما يصعب التنبؤ بما ينتظر البشرية من أزمات عالمية غير مسبوقة بعد أن ضرب الفيروس مراكز الصناعة والتكنولوجيا والمعلومات.

فماذا فعلت تركيا لمواجهة انتشار الفيروس؟

في البداية لا بد أن ننسب الفضل إلى أهله بكل أمانة، فتركيا نجحت بالفعل بالتعامل مع الفيروس حتى الآن على الأقل. وذلك بما تتمتع به البلاد من بنية صحية قوية ترجع إلى التحول الكبير في الخدمات الصحية في العقدين الماضيين، بعد الاستثمارات الحكومية الكبيرة في هذا القطاع.

في حين أن الدول الغربية ما زالت تتساءل عن جدوى قرار ترك خدماتها العامة بين يدي القطاع الخاص على مدى سنوات، وهو ما أدى إلى معاناة الآلاف من مواطنيها مؤخراً. واليوم، بدأت بعض الدول الأوروبية من دعاة الليبرالية والرأسمالية، تأميم المستشفيات ومؤسسات الخدمات الأساسية الأخرى. بينما قررت دول أخرى، مثل بريطانيا، السماح لانتشار الفيروس الجديد بسبب إيمانها بنظرية البقاء للأصلح، الأمر الذي جعلها تخاطر بحياة الملايين على أساس حصانة القطيع، مع العلم أن الآلاف قد يموتون، وهذا بحد ذاته يتناقض مع الفكرة الغربية لحقوق الإنسان إضافة إلى افتقارها إلى الرعاية الصحية القادرة على التعامل مع تفشي المرض.

تدابير تركيا المبكرة

يوضح خطاب الرئيس رجب طيب أردوغان يوم الأربعاء، أن تركيا تابعت عن كثب التطورات المتعلقة بالفيروس منذ بدايتها واتخذت إجراءات سريعة تجاهها. ونستعرض هنا قائمة بتدابير أنقرة وفق جدول زمني مفصل.

بدأ الأمر في 6 يناير عندما قررت أنقرة إطلاق مركز عمليات وإنشاء لجنة علمية تابعة لوزارة الصحة بهدف دراسة كل ما يتعلق بفيروس كوفيد-19 الجديد. وفي 10 يناير، بدأت تراقب عن كثب تطورات تفشي المرض. وبعد إعداد “دليل كوفيد-19” في 14 يناير، بدأت الحكومة تجري اتصالاتها بشأن المرض. ومع حلول 20 يناير، راحت تركيا تفحص جميع الركاب القادمين من الصين وهونغ كونغ والهند وإندونيسيا وماليزيا وميانمار والفلبين وسنغافورة وتايلاند وتايوان وأمريكا وروسيا وفيتنام.

وقامت اللجنة العلمية التي تضم أكاديميين بارزين من الجامعات الرائدة في تركيا، بدراسة كافة التدابير الوقائية وإصدار التوصيات اللازمة لتبدأ على الفور جميع المؤسسات ذات الصلة في تنفيذ تلك التوصيات. وفي 27 يناير، بدأت وزارة الخارجية بنشر تحذيرات السفر. وقامت الوزارة ا في 1 فبراير بالتعاون مع وزارة الصحة ووزارة الدفاع، بإعادة المواطنين الأتراك من ووهان بالصين إلى تركيا على متن طائرة عسكرية. ورافقت مجموعة من الأطباء الركاب على متن الطائرة لإجراء الاختبارات الأولية للفيروس قبل وصولهم. ثم تم عزلهم لمدة 14 يوماً. ولم يكن أي من هؤلاء الركاب مصابا.

وبالنسبة لجميع الرحلات الجوية من وإلى المناطق الخطرة، أخذت تركيا تجري مسحاً للركاب عن طريق كاميرات حرارية وإبلاغهم بما يمكن توقعه بعد الهبوط. وفي 3 فبراير، أوقفت أنقرة جميع الرحلات الجوية من وإلى الصين. وأغلقت جميع المعابر الجوية والبرية وخطوط السكك الحديدية مع إيران في 23 فبراير. وفي 27 فبراير، أنشأت تركيا مستشفيات ميدانية على بواباتها الحدودية مع إيران والعراق وجورجيا. وفي 29 فبراير، تم إيقاف حركة الركاب بين إيطاليا وتركيا بشكل كامل.

تدابير أخرى تم اتخاذها

قررت أنقرة في 2 مارس، تقديم فحوصات طبية لكل مواطن عائد من العمرة، إضافة إلى نصائح مطبوعة حول كيفية إجراء حجر صحي لمدة 14 يوماً. وفي 6 مارس، منعت تركيا الأجانب الذين كانوا في إيطاليا خلال الـ 14 يوماً السابقة من دخول البلاد. وفي نفس اليوم، نصحت بشدة بالحجر الصحي المنزلي لجميع مواطنيها العائدين من إيطاليا لمدة 14 يوم. وفي 10 مارس، أعلن وزير الصحة ظهور الإصابة الأولى داخل البلاد، وكان اختبار كوفيد-19 إيجابياً عند مواطن تركي حديث العودة من أوروبا.

وفي 12 مارس، اتخذت أنقرة حزمة جديدة من الإجراءات الهامة تضمنت تعليق الدوام في المدارس والانتقال إلى برامج التعلم عن بعد، وتأجيل سفر المسؤولين الحكوميين إلى الخارج، وحظر الجمهور من حضور المباريات الرياضية. وقامت بتحديث بعض المدارس الثانوية الفنية لتصبح قادرة على إنتاج المطهرات والأقنعة الواقية.

وفي 13 مارس، ارتفع عدد الإصابات بالفيروس إلى خمس حالات في تركيا. وفي اليوم نفسه، وبعد عدة اجتماعات للرئيس رجب طيب أردوغان، أوقفت أنقرة النقل الجوي مع تسع دول أوروبية، غير إيطاليا. كما قيدت الزيارة في المستشفيات. ومنحت الحكومة التركية إجازةً إداريةً لمدة 12 يوماً، للنساء الحوامل والمرضعات اللائي يعملن في السلك العام، إضافة إلى المعوقين والموظفين الذين تزيد أعمارهم عن 60 عاماً. كما أوقفت إجازات الجنود الروتينية وأوقفت مؤقتاً المحاكمات غير العاجلة والإجراءات القانونية الأخرى. وتم تأجيل جميع الفعاليات الفنية والثقافية حتى نهاية إبريل/نيسان.

وعملت أنقرة على تطوير نظام خاص يمكّن كبار السن وذوي الأمراض المزمنة، من الحصول على وصفاتهم الطبية دون الذهاب إلى المستشفى. كما قامت بتعليق كافة الفعاليات الوطنية والدولية والاجتماعات المفتوحة والمغلقة والمؤتمرات والمناورات العسكرية حتى نهاية إبريل/نيسان.

إضافة إلى ذلك، ضمنت تركيا الحد الأدنى من الضرر للمصدرين الأتراك من خلال التدابير المتخذة. فقامت بتغيير طرق الشاحنات القادمة إلى تركيا من آسيا الوسطى عبر إيران، حيث ينتشر الوباء، وجعلتها تمر عبر جورجيا وأذربيجان. وجعلت النقل إلى إيطاليا وفرنسا ممكناً بدون اتصال بشري.

وإلى جانب هذه التدابير، زادت عمليات مراقبة التلاعب بالأسعار وفعّلت العقوبات الجنائية على المخالفين لحماية المستهلكين. وتواصل أنقرة التشاور مع رجال الأعمال من أجل تقليل الآثار السلبية للوضع المتغير باستمرار.

تعليق مؤقت لأماكن التجمعات

في 14 مارس، تم تشخيص إصابة مواطن عائد من العمرة بـ كوفيد-19. وفي 15 مارس، بدأت تركيا عزل جميع القادمين من العمرة لمدة 14 يوماً. وتم عزل 10.000 معتمر في مدينتي أنقرة وقونية. كما علقت تركيا مؤقتًا أنشطة أماكن الترفيه مثل الحانات والكازينوهات والنوادي الليلية والمتاحف والمكتبات للحد من التجمعات.

وفي 15 مارس، بلغ عدد الإصابات في تركيا 18 مصاباً في حين تم تشخيص حالات جديدة في أوروبا والولايات المتحدة. وفي 16 مارس، قررت أنقرة وضع كل مواطن سافر من دول تم تعليق الرحلات الجوية إليها في الحجر الصحي لمدة 14 يوما. وأعلنت السلطات الدينية إيقاف صلاة الجماعة، بما في ذلك صلاة الجمعة، وأوصت بالصلاة في المنزل بينما تركت أبواب المساجد مفتوحة لمن يريد الصلاة بمفرده. وجاءت هذه الخطوة الهامة بهدف حماية الناس الذين يواظبون على أداء الصلوات الخمس في المساجد والذين يمثلون جزءاً من المجموعة الأكثر تعرضاً للخطر بسبب متوسط أعمارهم الكبير.

وبعد ذلك قررت تركيا تعليق الأنشطة مؤقتاً في المقاهي ودور السينما والمسارح وقاعات الحفلات الموسيقية وقاعات الأفراح والحمامات والقاعات الرياضية وملاعب الأطفال الداخلية وغيرها من أماكن التجمعات. وزادت الحكومة عدد المختبرات التي توفر اختبار كوفيد-19 السريع من أربعة إلى 16.

وفي 16 مارس، أعلن وزير الصحة أن عدد الأشخاص الذين تم تشخيص إصابتهم بالفيروس ارتفع إلى 47. وفي 17 مارس تمت إضافة ست دول أخرى إلى حظر الطيران المؤقت، بما في ذلك بريطانيا والمملكة العربية السعودية، ليصل المجموع إلى 20 دولة. وفي اليوم نفسه، ارتفع عدد المرضى الذين تم تشخيص إصابتهم إلى 98 وخسرت تركيا أول مريض، وهو مواطن يبلغ من العمر 89 عاماً.

برنامج “درع الاستقرار الاقتصادي”

أعلن الرئيس رجب طيب أردوغان في 18 مارس، حزمة اقتصادية بقيمة 100 مليار ليرة تركية أي ما يعادل 15.3 مليار دولار، تهدف إلى حماية تركيا من الآثار المالية لانتشار الفيروس الجديد. وقال بعد الاجتماع الأخير مع الوزراء ورؤساء مؤسسات المال والاقتصاد: “كان أداء اقتصادنا جيداً خلال الأزمة، والآن نقدم برنامج درع الاستقرار الاقتصادي لتقليل آثار جائحة كوفيد-19 على اقتصادنا”.

وتتضمن الحزمة الاقتصادية تأجيل الرسوم الضريبية والقروض ومدفوعات التأمين الاجتماعي، إضافة إلى العديد من الحوافز للشركات والمواطنين الأتراك. واشتملت تفاصيل البرنامج على تأجيل مدفوعات الضرائب والتأمينات الاجتماعية لجميع الشركات العاملة في صناعات الحديد والصلب والمنسوجات وتجارة التجزئة والخدمات اللوجستية والنقل والسيارات والأغذية والمشروبات، فضلاً عن دور السينما والمسارح والفنادق وغيرها. كما ستقدم الحكومة الدعم المالي لشركات التصدير.

وفي الوقت الذي ضاعفت فيه الحكومة مخصصات صندوق الائتمان الحكومي بهدف حماية البنوك الخاصة من الانهيار، طلبت من جميع المؤسسات المالية عدم إلغاء القروض الحالية وتسهيل متطلبات القروض الجديدة. وأعلن أردوغان أيضاً عن صندوقٍ جديدٍ للعائلات الفقيرة والعديد من المزايا لكبار السن. إضافة إلى قرارات أخرى لا يتسع المجال هنا للحديث عنها.

وفي 18 مارس، قفز عدد المصابين بالفيروس في تركيا إلى 191 حالة، من خلال تشخيص 93 مواطناً آخر. وأكد وزير الصحة فخر الدين قوجة وفاةً ثانية. وقال في تغريدة له: “من الواضح أن الاحتياطات ضرورية للتغلب على هذا المرض”.

الوباء في زمن العولمة

مع مواصلة الحكومة التركية حثّ الناس على البقاء في منازلهم، لا توجد طريقة لمنع الفيروس من الوصول إلى تركيا التي يتمتع مواطنوها بحرية العيش والسفر إلى الخارج. ولا يمكن للبلاد تجنب الإصابات الجديدة أو الوفيات المؤسفة كونها جزءا من عالم مترابط تضرب الأزمة الصحية الجديدة كل مكان فيه. لكن الاستمرار في الالتزام بإجراءات السلامة الخاصة بها وتشجيع المواطنين والمقيمين على البقاء في عزلة بقدر الإمكان، هو أمر ضروري تقوم تركيا بممارسته بكفاءة عالية.

وفي خطابه الأخير في 18 مارس قال الرئيس أردوغان: “من المرجح أن تستمر سياسة البقاء في المنزل لمدة ثلاثة أسابيع”، مضيفاً أن العزل الاجتماعي والنظافة الشخصية هما أكثر الإجراءات فعالية ضد كوفيد-19. وبما أن النظافة الشخصية متأصلة في ثقافة الشعب التركي، فلن يكون الأمر صعباً. فلنحاول البقاء في المنزل قدر الإمكان، واتباع الإجراءات الموصى بها ومساعدة الحكومة والقطاع الصحي على القيام بعملهم، بينما نراقب المواقف المرعبة في أوروبا وإيران والولايات المتحدة. ومع تضارب الآراء في هذا الأمر، دعونا نأمل أن تنتهي هذه الأزمة الصحية قريباً ويستفيد العالم من دروسها.

.

مروة شبنام أوروتش بواسطة / مروة شبنام أوروتش

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.