بناء الذات المسلمة: القرآن إبرة وقراءتنا له الخيط

 

إن العلاقة مع القرآن تعتبر قضية تحتل مركزية الإنسان المسلم من حيث حمله صفة الإسلام وعيشه معها. القرآن هو رسالة نزلت من عند الله على كل فرد مسلم بشكل خاص، وتخاطبه بشكل خاص كذلك. ولذلك فإن ما استعصى من فهم القرآن، يتم التعامل معه بطريقة مختلفة للغاية عن أولئك الذين يقرؤون القرآن دون إيمان به. حيث يبدو القرآن بالنسبة لهم مجرد نص عادي، أما بالنسبة للمسلم فهو رسائل خاصة بينه وبين صاحب هذا الكلام عز وجل. وهذا ما يجعل المسلم يمتاز عن غيره في عملية فهم القرآن.

هناك الكثير من الأمثلة في الواقع عن أشخاص كانوا غير مسلمين، لكنهم حينما قرؤوا القرآن تأثروا به وأصبحوا مسلمين. ولا يزال هذا قائمًا يتكرر كل يوم في زماننا الحاضر. كل شخص منهم يعثر على نقطة التقاء خاصة به مع الحقيقة التي يشير إليها القرآن، وعند هذه النقطة تحديدًا يخرج هذا الكلام من كونه مجرد نص عادي بنظره، لتبدأ علاقة أقوى تربطه مع هذا النص الذي صار قرآنا بمقتضى إيمانه.

إن أكبر عائق لدى اللاهوت كمادة علمية وكذا ما تُرجم منها للعالم الإسلامي كـ علم الكلام؛ هي الحديث عن الله باستمرار والتعامل معه على أنه موضوع علمي أو مادة علمية. إلا أن الله في الحقيقة قبل أن يكون محل حديث عنه، هو محل للشعور به والتوجه نحوه والتوجيه منه، وعبادته، والتضرع إليه، والدعاء له، والتودد إليه.

ما يعني أن الأمر ليس تحدثًا عن الله بل تحدثّ مع الله. إن قراءة القرآن توفر محادثة مباشرة مع الله، بدلًا من التحدث عنه والضياع في ضحالات الميتافيزيقا. حينما يقرأ الإنسان هذا الكتاب فإنه يتعرف على نفسه بشكل أكبر بنفس الدرجة التي يتعرف فيها على الله، حيث أن هذا الكتاب يتحدث عن الخالق والمخلوق كذلك. وبذلك يبدأ هذا الإنسان العمل بفاعلية أكثر، حيث وصل للنقطة القائمة ما بين معرفته لنفسه ومعرفته لله. لكن بالطبع لا تتحقق هذه الأشياء إلا عند قراءة القرآن على أصوله وآدابه.

وبالطبع يمكن أن نستذكر مجدّدًا إلى أي مدى يمكن أن يشكل اختلاف اللغة والتاريخ والمجتمع والخبرة وعدم معرفة جميع الجوانب الفريدة للقرآن؛ عائقًا في هذا الطريق. لكن ومع ذلك فمن الواجب أن لا يمتنع المرء عن التعرف على القرآن، وأن يبذل الجهود من أجل تكوين أرضية يقيم عليها علاقته مع القرآن بفاعلية أكبر. لقد تحدثت سابقًا عن أن كتاب “نور البيان” وهو تفسير للقرآن لـ “حسين كاظم قدري”، بات الآن يُقرأ بشكل أكثر من الماضي، بل والأغرب أن قراءة القرآن اليوم أكثر حتى من الحقبة العثمانية. يمكن أن يكون الإقبال بشكل أكبر على قراءة القرآن، إلى جانب ازدياد الحداثة؛ نوعًا من التناقض أو المفارقة بنظر الكثير من الأشخاص. إلا أننا ذكرنا أنه حين الوقوف على طبيعة القرآن وطبيعة الحداثة ندرك السبب وراء ذلك دون أدنى غرابة.

يزداد الوعي والعلم بالقرآن بالطبع بالتوازي مع انتشار وازدياد قراءته. من الممكن أن يتجاوز قارئو القرآن اليوم مع التراجم والتفاسير العديدة؛ عقبة اختلاف اللغة وما شابه والوصول إلى نقطة التقاء وشعور بالخطاب. لكن بالطبع لا يمكن أن يكون المستوى نفسه بالدرجة ذاتها لدى الجميع.

ربما التوصيف الذي طرحه أنثوني غيدنز، في نتائج الحداثة عن عقلية الإنسان الحديث، يلتقي بأحد أبعاده مع الإنسان المسلم. يعني من حيث أن علومًا مثل الطب والاقتصاد والحقوق والفيزياء وما شابه، لم تكن متاحة في الماضي إلا للمتخصصين، لكنها مع عصر الحداثة وما بعده باتت متاحة للجميع. ويمكن تكييف هذا الوضع بالتالي مع مجال الدين وعلم اللاهوت، بطريقة أسهل، وعلى صعيد آخر يلبي هذا الوضع تحقيق العلاقة التي يجب أن تكون بين الفرد والقرآن.

لطالما كانت العلاقة مع القرآن مع صلب بناء الذات الإسلامية على مر التاريخ. وهذا بدوره يعتبر نقطة هامة بمثابة ردع لأولئك الذين يقصرون ولادة الحركة الإسلامية وتطوّرها على العلاقة مع الغرب، وكأنها نشأت نتيجة لرؤية أو حركة غربية. لا يمكن أن نقيد الحركة الإسلامية ونأطرها بكونها نشأت نتيجة ردة فعل ضد التغريب أو الاستعمار الغربي. إن الحركة والخطابات الإسلامية بدأت قبل التغريب، من الجوهر الداخلي للإسلام ذاته، لتخرج ضد أمور مثل الحياد عن الذات الإسلامية، وإهمال العلاقة مع القرآن، وتحويل الإسلام إلى دين خرافات وبدع، وإدخال شركاء ووسطاء بين العبد والمعبود. وهذه العلاقة الداخلية في الإسلام لا يمكن ربطها بأي صلة خارجية مثل التغريب أو أي منحى خارجي. لطالما كانت هناك حركات على مر التاريخ الإسلامي، خرجت في وجه هذا الفساد الذي لحق بالدين، مقابل دعوة المسلمين للعودة إلى جوهر الإسلام حيث القرآن وصحيح السنة. ما يعني أن قراءة القرآن والعلاقة معه بالتالي مستمدة من الإسلام ذاته، دون الحاجة لبذل الجهد من أجل ربطها بشيء خارجي.

لعل المشكلة الأكثر أهمية في كتاب سلمان سيد “استعادة الخلافة” وعلى الرغم من كونه نابعًا من منظور إسلامي في النهاية؛ هي التركيز بشكل أكثر من اللازم على وقوف الحركة الإسلامية ضد نظام عالمي مركزه الغرب، (على الرغم من كون ذلك ميزة للحركة الإسلامية). لكن من ناحية أخرى وفي الكتاب ذاته وتحت عنوان “التأويل”، يستعرض سلمان سيد تحليلات قيّمة تتمحور حول مركزية العلاقة مع القرآن في بناء الذات المسلمة.

يكشف بشكل جيد للغاية في تلك التحليلات عن الشروط التأويلية التي تجعل القرآن أهم عنصر بإمكانه توحيد المجتمع الإسلامي بأكمله، على الرغم من اختلاف المقاربات والمستويات في عملية قراءة القرآن.

ربما تكون لنا عودة لذلك حتى نكمل ما بدأناه، إلا أنني أختم الحديث باقتباس بسيط من كتاب سلمان سيد، ذي مدلولات وتعمقات كبيرة؛ “القرآن إبرة، وقراءتنا له الخيط الذي يربط ما بين الأمة جمعاء”.

.

ياسين اكتاي بواسطة/ ياسين اكتاي  

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.