تأملات في نقاط ضعف الأحزاب السياسية التركية الجديدة

يُعد انسجام الأحزاب السياسية المشكلة حديثاً مع الماضي وتوافقها معه أمراً ضرورياً لإنشاء منصة أصيلة لها. ولا بد أن يكون ذلك الانسجام متعدد الأبعاد وأن يشكل مصدر أمل للناخبين. ولا يكمن التحدي الخاص الذي يواجهه حزب المستقبل وحزب التقدم والديمقراطية الجديدين، سواء في انتقاد حزب العدالة والتنمية الذي انفصلا عنه أو انتقاد الرئيس رجب طيب أردوغان، في إظهار الشجاعة في إطلاق أحزاب سياسية جديدة، لأنهما انتهيا من تلك المرحلة الآن وتجاوزاها.

وسواء أكان القائمون على هذين الحزبين الجديدين يعرفون أو لا يعرفون، فإن المشاكل الحقيقية التي يواجهونها تكمن في سحقهم تحت الهيمنة الخطابية لحزب الشعب الجمهوري وحزب الشعوب الديمقراطي، إذ يقتصر خطابهم على الانقسامات المختلفة التي اخترعتها أحزاب المعارضة واستخدام مجموعة المفاهيم ذاتها المعتادة والمألوفة، في انتقاد حكومة حزب العدالة والتنمية ومنها: حكم الرجل الواحد ومحاباة الأقارب والافتقار إلى الجدارة ونقص العدالة وتفشي الفساد والفقر وتشويه السمعة الدولية واتباع سياسة التخويف. كما تتشابه علاجات الأحزاب الجديدة المقترحة أيضاً مع مطالب حزب الشعب الجمهوري وحزب الشعوب الديمقراطي بشكل مقلق مثل: الخطاب الشامل والامتثال للمعايير الدولية في منح الحرية والديمقراطية والانتعاش الاقتصادي من خلال التنسيق مع الدوائر المالية في الخارج.

أنا ألوم اعتماد الأحزاب الجديدة على سياسات حزب الشعب الجمهوري وحزب الشعوب الديمقراطي في تصعيد الضغوط بدلاً من إيجاد السبل للتفاهم مع حزب العدالة والتنمية والانخراط في النقد الذاتي.

إن الجانب الأكثر إشكالية في خطابهم وتوصياتهم هو فشلهم في تحديد إنجازات حزب العدالة والتنمية بدقة منذ عام 2002 رغم أنهم كانوا جزءاً منه. إنهم يتجاهلون التزام الحزب الحاكم بمرجعية “النضال” وهو الذي برز كحركة ديمقراطية محافظة وخاض مجموعة من الخيارات السياسية لتعزيز موقفه الوطني الأصيل. كما يحاولون إقناع الناخبين المحافظين من خلال الانخراط بشكل انتقائي في الإنجازات السابقة لحزب العدالة والتنمية. ويروجون لأنفسهم بقولهم إن حزب العدالة والتنمية قد نفذت جعبته من القصص دون أن ينجح في إيجاد هوية سياسية محددة خاصة به. ربما يفترض رؤساء حزب المستقبل وحزب التقدم والديمقراطية أن الاعتماد على أسمائهم وهوياتهم الغامضة من شأنه أن يجذب الناخبين بطريقة أو بأخرى. ومع ذلك، كل ما أنجزوه حتى الآن هو إعادة إنتاج خطاب حزب الشعب الجمهوري وحزب الشعوب الديمقراطي فقط لا غير.

لقد وصل حزب العدالة والتنمية إلى السلطة السياسية من خلال معارك فكرية وعملية وحارب الكثير من المفاهيم مثل الأنشطة الإسلامية الاجتماعية والسياسية التي حكمتها مفاهيم أيديولوجية ضيقة، والوصاية “الكمالية” العلمانية المتطرفة وتهميش تركيا من خلال الدور المحدود الذي أُسند إليها في النظام الدولي. وعلى النقيض من ذلك، فإن الأحزاب الجديدة حريصة على الاعتراف بخطوة حزب الشعب الجمهوري في إنهاء معارضته القوية للحجاب الإسلامي ومدارس الأئمة والخطباء على أنها “تحول” حقيقي، في الوقت الذي تبدي فيه ترددها في انتقاد حزب الشعوب الديمقراطي لفشله في إبعاد نفسه عن إرهاب بي كا كا. وبعبارة أخرى، تتجنب الأحزاب الجديدة التفاهم التام مع بقية أحزاب المعارضة لأنهم لا يريدون أن يظهروا مدى تناقضاتهم.

لا تعتقد دوائر المعارضة التركية التي تعاني من حالة عداء شديد لشخصية أردوغان، أن اتهام الأحزاب الجديدة للرئيس التركي بحكم الرجل الواحد كافي. بل يطالبون أيضاً بأن ينخرط “أحمد داود أوغلو” و”علي باباجان” في النقد الذاتي لدورهما داخل حزب العدالة والتنمية بين 2013 و2016 كما لو كانوا يطالبون بتعهد هؤلاء بالولاء لحزب الشعب الجمهوري وحزب الشعوب الديمقراطي. ولكي نكون واضحين، فإن الأطراف الجديدة تتجاوب طوعياً مع هذا المطلب بمنتهى السذاجة. كما أن ردود أفعالهم الليبرالية المفرطة تقلل من قدرتهم السياسية على التفاوض والتعاون -مما يجعل خطابهم عرضة بشكل خاص لاتخاذ صبغة الخطاب القومي الكمالي والكردي. كأنهم لم يكونوا في السلطة ذات يوم ولم يقاوموا المشاكل التي تسببت فيها هذه الجماعات. إن استمرار وضعهم الهش والمقلق لا يتوافق مع الثقة بالنفس التي يحاولون إبرازها عندما يزعمون أنه يمكن إيجاد الحلول في “لمحة بصر”. وكل ما يفعلونه الآن هو خلق هالة من الاهتمام اللحظي الذي يتم استغلاله من قبل قيادة حزب الشعب الجمهوري.

تحاول الأحزاب السياسية المشكلة حديثاً في تركيا تمييز نفسها دون عناء عن طريق انتقاد أردوغان فقط. في الحقيقة، لا يمكنهم شق طريقهم الخاص دون التصالح مع أحد الأطراف. وإذا لم يقوموا بالتمايز عن كل من الحكومة وتحالف الأمة، فسوف ينتهي بهم الأمر إلى اتباع خطى رئيس حزب الشعب الجمهوري كمال قليجدار أوغلو، وتحويل أنفسهم إلى قطع “بزل” صغيرة في لوحة توسيع تحالف الأمة.

ومن الواضح أن قليجدار أوغلو يلجأ إلى أساليب مألوفة لتقليل مساحة المناورة للأطراف الجديدة، وإجبارهم على التماشي مع تحالف الأمة ومنعهم من إنشاء بدائل للتحالفات القائمة.

ويبقى السؤال إذا ما كانت الأحزاب الجديدة قادرة على التغلب على تلك التحديات لتبني موقف سياسي أصيل، معلقاً وبحاجة إلى إجابة.

..

برهان الدين دوران بواسطة / برهان الدين دوران  
اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.