هل حقا مكّن السلطان عبد الحميد الإنجليز من مصر؟

 

في السادس من سبتمبر/أيلول 1882، وبينما كان القائد العسكري المصري أحمد عرابي(1841-1911) يجهز لمعركة حاسمة مع القوات البريطانية الغازية، تلقى منشورًا يتضمن فرمانا من السلطان العثماني عبد الحميد الثاني بإعلان عصيان أحمد عرابي.

اعتبر الكثيرون أن الفرمان قد أسهم في هزيمة جيش عرابي أمام الإنجليز في معركة التل الكبير(1882)، وبالتالي حمّلوا السلطان العثماني المسؤولية عن سقوط مصر في قبضة الاحتلال البريطاني.

نعم الفرمان قد صدر بإعلان عصيان عرابي، وهي الجزئية الوحيدة التي لم تختف من حيثيات الاتهام للدولة العثمانية بأنها مسؤولة عن الاحتلال البريطاني لمصر، أما بقية السياق والملابسات وبيئة الحدث، فلا تراهم يشيرون إليها من قريب أو من بعيد، لأن المعرفة بها تغير طبيعة الحكم على السلطان العثماني تماما.

وحتى نبسط طرحنا في هذه القضية، سوف نجلي الحقائق من خلال العناصر التالية:

أولا: الأوضاع في مصر قبل الاحتلال البريطاني:

من المعلوم أن مصر قبل الاحتلال البريطاني كانت تقع تحت سلطة أبناء محمد علي باشا الذين توارثوا السلطة فيها انطلاقا مما ضمنه محمد علي لنفسه في معاهدة لندن 1840م، ومنذ تولي الخديوي إسماعيل الحكم عام 1863، أغرق مصر في الديون الخارجية التي كان ينفقها على الترف والمظاهر في إسراف شديد، فيذكر المؤرخ المصري محمد حرب في كتابه “العثمانيون في التاريخ والحضارة” أن العلاقات العثمانية المصرية قد اتخذت طورا متشددا تجاه هذا السرف، حيث اقترض إسماعيل في عشر سنوات من بريطانيا وفرنسا ما يعادل ديون الدولة العثمانية وحدها، ما دفعه لطرح أسهمه الشخصية في قناة السويس للبيع، فاشتراها دزرائيلي رئيس وزراء بريطانيا، فأدى إلى وقوع مصر فريسة للنفوذ الأجنبي، وإزاء هذه السياسات، قام السلطان العثماني بعزل الخديوي وتولية ابنه محمد توفيق باشا.

كانت الدولة العثمانية تعاني الضعف والاضطرابات والمواجهات الخارجية العاصفة، وصارت هدفا لكل الدول الاستعمارية، وفي ذلك الوقت ظهرت في مصر حركة وطنية لمقاومة النفوذ الأجنبي تزعمها ضباط بالجيش المصري، أجبروا الخديوي على تغيير الحكومة وتقليص النفوذ الأجنبي والقيام ببعض إجراءات سياسية إصلاحية أخرى، ووجد السلطان العثماني في الحركة الوطنية الناشئة سبيلا لتخليص مصر من النفوذ الأجنبي، فقام بدعم الثوار وعلى رأسهم أحمد عرابي.

ثانيًا: علاقة عرابي بالسلطان:

تشكلت حكومة موالية للثوار برئاسة محمود سامي البارودي، شغل فيها عرابي منصب وزير الحربية، والذي توطدت علاقته بالباب العالي، ومنحه السلطان إضافة إلى الباشوية، رتبة أمير لواء، وكانت رتبة لا تصدر إلا من السلطان نفسه.

وفي كتابه “أحمد عرابي الزعيم المفترى عليه”، يذكر المؤرخ والناقد المصري محمود الخفيف المتوفي عام 1961م، أن عدة مراسلات قامت بين عرابي والباب العالي، كان منها ما ذكره عرابي نفسه في مذكراته أنه راسل الحضرة السلطانية عندما كثر تردد القنصل الإنجليزي على الخديوي، وعلْم عرابي بأطماع بريطانيا في وادي النيل أسوة بسيطرة فرنسا على تونس عملا بقاعدة التوازن الدولي.

وفي رسالة أخرى أرسل يشرح للسلطان العثماني براءته من الاتهام بالتواطؤ مع الإنجليز على إنشاء إمبراطورية عربية، وجاءه الرد بأن السلطان اقتنع بولائه ويأمره أن يظل على طاعته ويطالبه بالدفاع عن بلده بكل ثمن ضد الاحتلال.

ويصرح مؤلف الكتاب بأنه راجع الرسالتين كما أثبتهما عرابي على الترجمة الإنجليزية لأصلهما التركي فوجدهما متطابقتين.

لقد كان أحمد عرابي يدين بالولاء والطاعة للسلطان العثماني، وتراه يقول في مذكراته: “لم نشق عصا الطاعة كما يدعي الأوروبيون، بل طلبنا الإصلاح باسم الذات الشاهانية (يعني السلطان)، وبذلك علم الصغير والكبير بأن لنا سلطانا شرعيا هو صاحب السيادة العظمى على البلاد المصرية، وأن الخديوي هو نائب عن جلالته فقط”.

– موقف السلطان من التدخل البريطاني بمصر:

عندما قام عرابي المدعوم من الباب العالي بإنهاء عمل الموظفين الأوروبيين، احتجت بريطانيا وفرنسا وطلبتا من السلطان العثماني إرسال قوات عسكرية إلى مصر، إلا أن عبد الحميد رفض إرسال قواته، ويعلل المؤرخ محمد حرب ذلك بأن قمع الحركة الوطنية المصرية بجنود أتراك لصالح الدول الأوروبية وهي دول استعمارية، كان من شأنه الإساءة إلى مقام الخلافة في كل أرجاء العالم الإسلامي، ويتنافى مع مبدأ الجامعة الإسلامية التي كان عبد الحميد قد اتخذها سياسة له.

هذا كان موقف السلطان عبد الحميد من التدخل البريطاني قبل الاحتلال، وله موقف آخر بعد الاحتلال ينفي عنه تهمة التمكين للإنجليز، ففي مطلع القرن العشرين أنشأ السلطان مدينة بير السبع بين غزة والبحر الميت، وحلت فيها قوة عثمانية لتكون قاعدة إستراتيجية تشرف على شبه جزيرة سيناء والجزيرة العربية وطريق الحجاز ومصر، وتراقب الاحتلال الإنجليزي لمصر.

إزاء ذلك اختلقت بريطانيا حادثة عند قرية العقبة وطلبت إرسال جنود إليها بهدف السيطرة على المدخل الشمالي الشرقي للبحر الأحمر، فما كان من السلطان إلا أن أرسل قواته لاحتلال القرية بعد إجلاء الجنود المصريين المتواجدين فيها بعلم السلطان.

وانطلقت في المدن المصرية مظاهرات مؤيدة للسلطان تهتف باسمه، وقدمت انجلترا إنذارا للسلطان باحتلال العقبة إذا لم يخل قواته منها، إلا أن عبد الحميد رفض هذه الضغوط وأبلغهم أن مصر جزء من الدولة العثمانية رسميا، وليس لإنجلترا حق فيما تريده، وأن الحدود المصرية العثمانية لا يحلها إلا ضباط من مصر والدولة العثمانية، وفي 1906 قام الضباط المصريون والعثمانيون بتنظيم الحدود، واستقر الأمر على أن طابا مصرية.

– خلاصة ما سبق:

– وإجمالا لنتائج هذا السرد نقول:

1 – الاحتلال البريطاني تم في ظروف ضعف الدولة العثمانية وتعرضها لمؤامرة عالمية.

2 – السلطان العثماني رعى النبتة الوطنية التي تحدّ من النفوذ الأجنبي الذي يمالئه الخديوي.

3 – العلاقة بين القائد أحمد عرابي والسلطان العثماني كانت قوية.

4 – تنفي مواقف السلطان تجاه التدخل البريطاني قيامه بالتمكين لبريطانيا في مصر.

– تفسير إعلان السلطان عصيان عرابي:

وهذا هو بيت القصيد، فإذا كان السلطان العثماني يرفض الوجود الأجنبي، وعلاقته بعرابي على هذا النحو، فلماذا أصدر فرمانا بعصيان عرابي؟

ربما لو تعرفنا على موقف عرابي نفسه من الفرمان نعثر حينئذ على تفسير مناسب أو نقترب منه.

في مذكرات عرابي التي أشرف على تحقيقها د.عبد المنعم الجميعي أستاذ التاريخ الحديث والمعاصر بجامعة القاهرة، يقول عرابي تعليقا على الفرمان بعد أن رفض اقتراح خطيب الثورة العرابية عبد الله النديم بالرد على الفرمان ونشره في صحيفة الطائف: “ربما كانت هذه البياننامة (الفرمان) مبنية على سياسة من السلطان، اضطرته إلى إصدارها مراعاة لظروف الأحوال، والخوف من ظهور المسألة الشرقية في مظهر يصعب استدراكه ويعز تلافيه”.

فهذا ظن عرابي بالسلطان العثماني، وهو ما ينسجم تماما مع سيرة عبد الحميد الذي عرف بالتدين وحب المسلمين، والذي عمل على مشروع الجامعة الإسلامية وتوحيد الأمة، ورفض في ذروة أزماته الطاحنة عرضا صهيونيا يسيل له اللعاب مقابل إقامة وطن للصهاينة في فلسطين، فهل مثل هذا السلطان من يقدم على إعلان عصيان عرابي رغبة في تمكين الإنجليز في مصر؟!

أمر آخر مهم الإشارة إليه، وهو توقيت إعلان العصيان، لماذا لم يصدر هذا الفرمان منذ بداية ضرب الأسطول الإنجليزي للأسكندرية التي قاد فيها عرابي المقاومة؟

ولماذا لم يصدر الفرمان بعد إخلاء عرابي ورجاله الأسكندرية إلى مدينة “كفر الدوار” لتكون مركزا جديدا لمقاومة الغزاة؟

يقول الباحث التاريخي محمد إلهامي: “لقد ظهر منشور العصيان يوم (6 سبتمبر 1882م) أي قبل الهزيمة الفعلية في “التل الكبير” بستة أيام فقط، وقبل احتلال القاهرة بأسبوع واحد، وبعد ضرب الإسكندرية بشهرين، لقد أراد السلطان عبد الحميد أن لا يكون في معسكر المهزومين بل في معسكر المنتصرين ليكون له مكان في مستقبل مصر والمسألة المصرية”.

إذن نستطيع القول بصرف النظر عن عن تقيم إصدار الفرمان، أن السلطان العثماني في هذا التوقيت خسر الرهان على عرابي ورجاله، فمن ثم أعمل حساباته السياسية التي تجعله يخرج بأقل الخسائر طالما كانت الهزيمة محققة، خاصة وأن بريطانيا كانت تؤكد على أنها لن تحتل مصر.

إضافة إلى ذلك فإن عرابي تعرض للخديعة من فرديناند ديليسبس صاحب مشروع حفر قناة السويس، فعندما أرادت بريطانيا الدخول في العمق المصري من خلال قناة السويس، طلب عرابي من ديليسبس ردم جزء من القناة لمنع تقدم البريطانيين، لكن الأخير طمأنه بأن القناة ممر دولي محايد لن تمر منه بريطانيا، فكان من السهل أن يغلق عرابي القناة لكنه تركها مفتوحة اعتمادا على كلام ديليسبس، وهذا من عجائب ما حدث، إذ كيف يثق عرابي في أعدائه على هذا النحو في أمر مصيري كهذا؟!

وختاما:

قد يكون القول بأن السلطان قد أخطأ في حساباته السياسية بإعلان عصيان عرابي في هذا الظرف له وجه، لكن كل ما سقناه ينفي تماما أن السلطان عبد الحميد باع مصر للإنجليز ومكنهم منها، خاصة وأن تاريخ الرجل ناصع البياض بشأن الحرص على الأمة ومواجهة كيد أعدائها.

.

المصدر/ A.A

 

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.