تركيا وروسيا: الصوت في ليبيا والصدى في سوريا؟

أعلنت وزارتا الخارجية التركية والروسية إرجاء الزيارة التي كان يفترض أن يقوم بها وزيرا الخارجية والدفاع الروسيين إلى تركيا لإجراء مباحثات بخصوص الملفين الليبي والسوري إلى موعد لاحق. وضع هذا الخبر، الأول من نوعه ربما في سياق العلاقات التركية – الروسية مؤخراً، في سياق التطورات الميدانية والسياسية الأخيرة في ليبيا غزير الدلالات والانعكاسات المحتملة.

فقد بنى الطرفان على مدى السنوات القليلة الماضية علاقات أكثر من متينة بالنظر إلى تاريخهما المشترك وانتماءاتهما المتناقضة، وصولاً إلى مشاريع ضخمة متعلقة بالطاقة وأسلحة استراتيجية مثل منظومة إس400، فضلاً عن الأبعاد الاقتصادية والتجارية والسياحية المتنامية بينهما.

ولعل ذلك ما ساعد الطرفين على بناء مسار من التفاهم، رغم تباعد الرؤى والمواقف، في الأزمة السورية والذي تبلور في مسار أستانا والإطار الثلاثي الضامن لوقف إطلاق النار، بما جنبهما أي مواجهة أو احتكاك غير مرغوب بهما بعد تجربة إسقاط المقاتلة سوخوي في تشرين الثاني/نوفمبر 2015.

شيء من هذا القبيل بدا متوقعاً في الأزمة الليبية كذلك، لكن تأجيل الزيارة يوحي بتعثر ذلك حتى كتابة هذه السطور، بل ينبئ بتوسع الشقة بين الطرفين.

لم يعلن أي من الطرفين سبباً وجيهاً لتأجيل الزيارة، إلا الحديث عن استمرار التشاور بين الفرق الفنية من الجانبين كما جاء على لسان وزير الخارجية التركي مولود تشاووش أوغلو، كما أنه لم يحدد موعد آخر للزيارة ما يوحي بأن التأجيل قد يكون إلغاءً مغلفاً. ورغم تأكيد الأخير بأن التأجيل كان قراراً مشتركاً، إلا أن دلالاته لا تخفى.

الإعلان عن إرجاء الزيارة أتى أولاً من الخارجية التركية ثم أكدته نظيرتها الروسية، ما يوحي بأن قرار التأجيل كان تركياً بالأساس، وهو ما يتوافق مع ما نقلته صحيفة يني شفق من أن موسكو قدمت عرضاً بخصوص ليبيا لم ينل استحسان أنقرة وموافقتها. بينما هناك رواية أخرى بأن روسيا عملت على عرقلة جهد دبلوماسي تركي بخصوص ليبيا بسبب استمرار معركة سرت، وهو ما زاد من توتر الأجواء بين البلدين.

على مستوى العلاقات التركية – الروسية، لا يمكن الاستهانة بما حصل في ليبيا في الأسابيع القليلة الأخيرة. صحيح أن موسكو تعلن عدم انحيازها لأي من طرفي الصراع، لكن مجموعات الفاغنر والطائرات المقاتلة التي نقلت إلى هناك والقصف الروسي الجوي لقوات الوفاق تقول شيئاً آخر. وفي حين دعمت روسيا المبادرة المصرية التي جاءت بعد تقدم حكومة الوفاق، قالت تركيا إنها “ولدت ميتة” مشككة في مصداقية إعلان حفتر قبوله وقف غطلاق النار بعد رفضه له شهوراً طويلة، بما فيها محادثات موسكو ملطع العام.

ثمة مواجهة سياسية إذن بين موسكو وأنقرة في ليبيا، وكذلك مواجهة مسلحة غير مباشرة، حيث استفادت حكومة الوفاق كثيراً من الدعم التركي في تقدمها الأخير والذي شمل ليس فقط تقهقر قوات حفتر ولكن تدمير أسلحة روسية في مقدمتها منظومات بانتسير أيضاً. كما أن طائرات روسية الصنع شاركت في وقف تقدم قوات الوفاق في سرت، وهو ما عددته تركيا خرقاً لوقف إطلاق النار، منتقدة علناً الدعم الروسي المقدم لقوات حفتر على لسان عدة مسؤولين في مقدمتهم الرئيس اردوغان الذي قال لنظيره الروسي إن حفتر “يستمد القوة منك” في خرق وقف إطلاق النار.

فرض كل ذلك تركيا لاعباً أساسياً وصانعاً للسياسة في المسألة الليبية، بل ذهبت أنقرة إلى ما هو أبعد من ذلك لتأسيس وجود طيول المدى لها هناك من خلال التفكير بإنشاء قاعدتين عسكريتين كما أوردت رويترز نقلاً عن مصدر تركي.

فإذا ما أضفنا للمشهد العامل الأمريكي الرافض للوجود الروسي في ليبيا، والذي تستثمره أنقرة بوضوح، والعلاقات التركية – الأمريكية المتحسنة في الآونة الاخيرة، وإرجاء أنقرة تفعيل منظومة إس400 على أراضيها، وتزايد الانتقادات الرسمية التركية لروسيا في كل من ليبيا وسوريا، يمكننا التوصل لنتيجتين رئيسيتين. الأولى أن العلاقات بين البلدين لا تمر بأفضل مراحلها حالياً، والثانية أن الموقف التركي بات أفضل حالاً مقابل روسيا عما كان عليه سابقاً ومنذ سنوات.

وزير الخارجية التركي أكد أن بلاده ستواصل المباحثات مع الجانب الروسي لضمان وقف إطلاق نار في ليبيا، مشيراً إلى استمرار عمل الفرق الفنية، إلا أن ذلك لا ينفي بالجملة ارتدادات محتملة وردات فعل روسية في ليبيا كما في سوريا. في ليبيا، ثمة دور روسي ميداني وسياسي متبلور، فماذا عن سوريا؟

رغم الافتراق الواضح في الرؤى والمصالح، استطاع الجانبان التركي والروسي التوصل لتفاهمات عديدة في المسألة السورية جنبتهما الكثير من المتاعب، بل إن جزءاً من العمليات العسكرية التركية في الشمال السوري أتت بتنسيق مع موسكو، بما في ذلك التفاهمات التي تلت عملية درع الربيع، وصولاً للبروتوكول الإضافي لوقف إطلاق النار في إدلب في آذار/مارس الفائت.

ثمة ارتباط واضح بين الملفين الليبي والسوري على صعيد العلقات التركية – الروسية رغم نفي الطرفين لذلك، وفي كلتا حالتَيْ الهدوء والتصعيد، ومن أمثلة ذلك دعوة الرئيسين اردوغان وبوتين لوقف إطلاق النار في كل من ليبا وإدلب بشكل متزامن، وتصعيد النظام/روسيا في إدلب بعد توقيع أنقرة الاتفاقين البحري والأمني مع حكومة السراج، ما عده الكثيرون في حينه رسالة روسية مباشرة لأنقرة.

ولذلك، يبقى هناك دائماً احتمال بأن ترد روسيا على التطورات الليبية في سوريا وتحديداً إدلب. فهل تفعل؟

نظرياً، ما زال الاتفاق التركي – الروسي بخصوص إدلب سارياً وصامداً، ورغم الخروقات المتكررة يردد الجانبان أهمية الحفاظ عليه وتدعيمه، بالتوازي مع التنسيق الميداني المنبثق عنه حيث سيّر الطرفان قبل أيام الدورية المشتركة رقم 16 بينهما على الطريق الدولية. لكن الخطاب الروسي ما زال يركز على فكرتي السيادة السورية وضرورة بسط النظام سيطرته على المنطقة عاجلاً أم آجلاً من جهة، وضرورة مكافحة المنظمات الإرهابية فيها من جهة أخرى.

ميدانياً، هناك رصد لحشود مستمرة من النظام وحلفائه في المنطقة، وتوجس من احتمال إطلاقه عملية عسكرية فيها لا سيما في ظل الحشد المضاد من قبل هيئة تحرير الشام. وهي الهواجس التي تحولت واقعاً مع تصعيد النظام مؤخراً بدعم جوي روسي بعشرات الغارات بعد حوالي ثلاثة أشهر من الهدوء وبالتزامن مع التطورات الميدانية في ليبيا، ما يعزز من فرضية الترابط.

الخطوات التركية الاحترازية لعملية عسكرية محتملة للنظام في ريف إدلب بدعم روسي تبدت في التعزيزات التي أرسلتها أنقرة للمنطقة وإنشاء نقاط مراقبة جديدة في جبل الزاوية بريف إدلب الجنوبي، إضافة للمساعي الدبلوماسية التي تقودها مع موسكو وواشنطن وطهران وغيرها من الأطراف.

في الخلاصة، ثمة افتراق كبير في المواقف والأدوار بين تركيا وروسيا في ليبيا، لا سيما وأن التطورات الميدانية الأخيرة لصالح حكومة الوفاق رفعت من منسوب الثقة بالنفس واوراق القوة لدى تركيا بما قوّى موقفها مقابل موسكو، متحصنة بغطاء سياسي وقانوني واضح باعتبار أن الحكومة الوفاق معترف بها دولياً ومستثمرة الموقف الأمريكي – وبدرجة أقل الأوروبي – الرافض للتواجد الروسي جنوب المتوسط.

وكما حصل في محطات سابقة، ثمة احتمال كبير أن تلجأ روسيا للتصعيد في سوريا رداً على الخسائر المعنوية والتطورات الميدانية في ليبيا، ضغطاً على تركيا للتوصل لتفاهمات جديدة، بما يعني توتراً جديداً على خط أنقرة – موسكو.

لكن ذلك لا يعني بالتأكيد انفراط عقد التفاهمات التي ما زالت حاجة للجانبين، كما قناعة تركيا بأن مسار أستانا لن يفضي لحل ما في سوريا لن يمنع استمرارها فيه للمصالح المتحصلة لجميع أطرافه، فضلاً عن المصالح الحيوية والاستراتيجية سالفة الذكر مع موسكو. ما يبقي العلاقات بين أنقرة وموسكو مركبة ومتشابكة على عدة مستويات، بما يشمل المواجهة غير المباشرة والتنافس والتعاون والتفاهم حسب الملف المطروح، رغم أن غمكانية الفصل بين الملفات بات أصعب بكثير من السابق. فهل يكون للغنجاز التركي الواضح في ليبيا صدى روسي في سوريا قريباً؟

.

بواسطة/ سعيد الحاج  
اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.