عن ضوء تركي أخضر إلى عقيلة صالح

يقول رئيس المجلس الأعلى للدولة في ليبيا، خالد المشري، إن الصراع في ليبيا هو بين مشروع ديمقراطي، تقوده اليوم حكومة الوفاق الوطني ومشروع دكتاتوري، تراهن عليه مليشيات (اللواء المتقاعد) خليفة حفتر وداعميه الإقليميين. وان ما قدمه (رئيس البرلمان في طبرق)، عقيلة صالح، أخيرا، لا يعتبر مبادرةً سياسيةً، بقدر ما يمكن تسميتها مناورة سياسية، وأن الإمارات ومصر وفرنسا سيراهنون على صالح، بديلا لحفتر، وسيسعون، بشكل أو بآخر، إلى تسوية يكون له الدور الكبير فيها.

وقد حمل تغيب المبعوث التركي إلى ليبيا، أمر الله إيشلر، عن المشاركة في الوفد الرفيع (ضم وزيري الخارجية والمالية ورئيس المخابراتظهووآخرين)، والذي قصد طرابلس قبل أيام، على الرغم من متابعته الملف منذ العام 2014، حمل معه أكثر من تأويل وفرضية، أهمها ما قيل عن احتمال إعفائه من المهمة، بعد تصريحاتٍ إعلامية، تحدّث فيها عن انتهاء فرص حفتر السياسية، وإمكانية قبول تركيا عقيلة صالح في الحوار الليبي الليبي.

هل تفرّد إيشلر أو تسرع في إعلان رأيه الانفتاحي على عقيلة صالح، قبل ظهور نتائج زيارة  الوفد التركي إلى طرابلس، وقبل التأكد مما تقوله حكومة الوفاق بشـأن عقيلة صالح؟ وكانت أنقرة قد أعلنت رفضها “مبادرة” القاهرة لوقف إطلاق النار في ليبيا، لأنها مسعى إنقاذ حفتر، ولأن هذا التحرّك “مات في مهده”، ثم قال إيشلر ما قاله عن الجلوس مع عقيلة صالح، المشارك في صناعة المشهد الثلاثي المعادي لتركيا في القاهرة. ويردد الدبلوماسي التركي أن ليبيا تقترب من الحل السياسي الشامل، وأن المفاوضات السياسية في ليبيا يجب أن يقودها رجال السياسة، وأن عقيلة صالح رجل سياسة، ويجب أن يساهم في هذه العملية. ويعرف أن صالح هو نفسه الذي كان يقول، في يوليو/ تموز عام 2018، إن تركيا تسببت في مآس عديدة في ليبيا، وأنه دعا البرلمان العربي، حيث كان شريكه حفتر يحاول اقتحام العاصمة الليبية في منتصف يناير/ كانون الثاني المنصرم لإنهاء “الغزو التركي”، إلى تفعيل اتفاقية الدفاع العربي المشترك لمواجهة التدخلات الخارجية، وسحب الاعتراف بحكومة الوفاق. وهو من كان يقول قبل أسبوعين إن أنقرة “أرسلت ما يزيد على عشرة آلاف إرهابي” إلى بلاده “لقتال الجيش الليبي والشعب الليبي”.

كان عقيلة صالح داعما للعملية العسكرية ضد طرابلس، وتنقل بين عواصم عديدة لترويجها، وطالب من منصة البرلمان المصري بالتدخل العسكري في ليبيا، فما الذي يدفع أنقرة إلى تليين مواقفها حياله، والتلويح باحتمال قبوله طرفا مفاوضا نيابة عن شرق ليبيا؟ تعرف أنقرة أن هناك تنافسا إقليميا ودوليا أكبر، بعد قبول داعمي حفتر التخلي عنه، على دعم عقيلة صالح وفتح الطريق أمامه، وأن هناك حقيقة أخرى لا بد من تجاوزها، وهي الاصطفافات الإقليمية ضدها في ليبيا وشرق المتوسط، وأن الفرصة الوحيدة لمواجهة ذلك هي تفريق هذا التكتل، عبر حوار ثنائي مباشر مع بعض أطرافه أو توجيه الرسائل الانفتاحية على بعض عواصمه. ولذلك رأيناها تغازل بعضهم في شرق ليبيا، وتحاول كسب إيطاليا إلى جانبها، وتعمل على تحريك واشنطن وبرلين ولندن ضد فرنسا ومواقفها، وكسب الدعم الأطلسي في مواجهتها مع روسيا، عبر تضييق الخناق على باريس.

كثيرون هم من يعرفون أن فريق التنسيق الرباعي بين الرئاسة التركية ووزارتي الخارجية والدفاع وجهاز الاستخبارات هو الذي يقود الملف الليبي. وأن ما قد يدفع القيادة التركية إلى مراجعة مواقفها حيال عقيلة صالح هي الضمانات التي قد تقدّمها واشنطن لها ولطرابلس، عبر مشروع تحرك إقليمي متعدّد الجوانب، ويهدف إلى إنهاء إصرار منتدى غاز شرق المتوسط (مصر وإسرائيل واليونان وقبرص وإيطاليا، بحضور الأردن وفلسطين) على إبقاء تركيا وليبيا بعيدتين عن خطط التحاصص هناك، ويفتح الطريق أمام تحريك مشروع نقل الطاقة الأوروبي – الشرق أوسطي عبر البوابة التركية، ما يوجه ضربة استراتيجية للخطط الروسية، ويقرب بين فرنسا وتركيا ويمهد لمصالحة أوسع بين الدول المتشاطئة في شرق المتوسط، فهل عرضت واشنطن على أنقرة تصورا متعدّد الجوانب والفوائد من هذا النوع؟ وفيما أعلن وزير الخارجية التركي، مولود جاووش أوغلو، أن تفاهمات تركية أميركية قد تمت باتجاه التنسيق الاستراتيجي المشترك في ليبيا خطوة مهمة بهذا الاتجاه، هل ستبدأ باريس بمراجعة مواقفها التصعيدية ضد أنقرة في ليبيا وشرق المتوسط؟

ومع التطورات الميدانية والسياسية المستجدة، يبحث خليفة حفتر الذي يناور منذ 2014 ضد الحكومة الشرعية في طرابلس، وكان يستعد لوضع اللمسات الأخيرة على اختراق العاصمة، عن حبل نجاة ينتشله من الغرق، خصوصا أن منظمات وهيئات دولية وأممية عديدة تستعد لمساءلته عن ملفات تجهز بشأن الجرائم ضد المدنيين وزرع الألغام في الأماكن السكانية، وارتباطاته المباشرة في صفقات سلاح مع إسرائيل بوساطات إماراتية فرنسية مصرية. لا بد من محاور بديل، بحسب الخارطة السياسية والحزبية في بنغازي، وليس هناك أقوى من عقيلة صالح في هذه المرحلة. ولكن هناك حقيقة أخرى، أن أي قبول تركي به أمام الطاولة لن يعني، في جميع الأحوال، التفريط بشراكتها مع حكومة الوفاق وقياداتها السياسية في طرابلس، وأن القرار النهائي هو للحكومة الليبية نفسها في خياراتها الوطنية.

وبشأن الجهود الأميركية، فهي واضحة هنا، تهدف إلى إضعاف الموقف الروسي في مقابل جوائز ترضية لأكثر من لاعب إقليمي. وقد قال وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو “حان الوقت لأن يتحاور الليبيون، وأن ينتهي التدخل الروسي أو غيره”. تنافس/ تفاهم روسي أميركي على تقديم عقيلة صالح إلى واجهة الحوار السياسي في ليبيا هو الذي قد يدفع أنقرة لإعلان التحول في موقفها حياله، وتجنب مزيد من الضغوط الإقليمية والدولية، ولكن الشريك الليبي هو الذي سيعطي الضوء الأخضر، لأنه هو الذي سيتحمل الأعباء والارتدادات السياسية والحزبية والشعبية الداخلية.

قد تقبل أنقرة وجود عقيلة صالح أمام الطاولة، لأن ذلك سيعني رمي الكرة في ملعب القوى السياسية الليبية في الشرق، وترك حلفاء حفتر يقنعونه هم بضرورة الانسحاب، وفتح الطريق أمام صالح الأكثر قبولا اليوم، ولكن مشكلة أنقرة تبقى هنا إقناع موسكو بإعطائها ما تريد. وقد تكون رسائل الانفتاح الروسي أخيرا على واشنطن في ليبيا مؤشرا على اقتراب موعد الطاولة الثلاثية التركية الأميركية الروسية بشأن ليبيا بدعم بريطاني ألماني وإيطالي. وقد باتت الأبعاد الإقليمية في ملفات ليبيا وشمال أفريقيا وشرق المتوسط متداخلة متشابكة، لكن مشكلة أنقرة ستبقى إقناع حلفائها في طرابلس بفوائد ما تقول وإيجابياته، وهي تعرف أن المسألة ليست بمثل هذه السهولة والبساطة، لأنها تتعارض مع التصعيد السياسي الواسع الذي يواصله عقيلة صالح ضد تركيا وضد حكومة الوفاق، وهو الذي اختار الوقوف على يمين الرئيس المصري، عبد الفتاح السيسي، لحظة قراءة بيان القاهرة الثلاثي الذي يرفض أي دور أو وجود أو نفوذ لتركيا في ليبيا، فكيف ستثق أنقرة بصالح، رجل مصر والإمارات وفرنسا؟

.

بواسطة/ د.سمير صالحة  
اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.