تركيا العائدة من بعيد

قبل حوالي مئة عام وتحديدا بين تشرين أول (أكتوبر) 1911 وتشرين ثاني (نوفمبر) 1912، وصلت إلى ليبيا من شرقها عبر مصر، ومن غربها عبر تونس قوات عثمانية أطلقت على نفسها اسم “الفدائيين”، وكان من بينهم ضابطان بارزان من “تركيا الفتاة” في الجيش العثماني، أنور باشا ومصطفى كمال، الذي سيكون لاحقا، مصطفى كمال أتاتورك مؤسس الجمهورية في 1924.

أطلق الفدائيون العثمانيون، بالتعاون والتنسيق مع قبائل الشرق الليبي وغربها، ومع المقاومين المنضوين تحت لواء الحركة السنوسية، حملة ضد الاحتلال الإيطالي في ليبيا. هو احتلال كان الحلقة الأخيرة في استكمال بسط القوى الإمبريالية سيطرتها على المنطقة المغاربية (الجزائر- 1830، ثم تونس- 1881، ثم مصر- 1882، ثم موريتانيا بداية من 1902، ثم المغرب- 1912).

وخاض الفدائيون العثمانيون معارك كبرى ضد الإيطاليين الذين كان عددهم حوالي عشرة أضعاف عدد المقاتلين العثمانيين. وقد عبّر أنور باشا في مذكراته عن إعجابه الشديد ببسالة الليبيين في القتال، وشجاعتهم وبسالتهم في الإقدام في مواجهة المحتل الإيطالي، كما انبهر الضابط التركي السامي، بالارتباط الديني الروحي الذي يشد الليبيين للسلطنة العثمانية، رغم التباعد الجغرافي بين إسطنبول وطرابلس، وفشل العثمانيون في منع الإيطاليين من دخول ليبيا واحتلالها.

صحيح أن القادة العسكريين، لا سيما أنور باشا ومصطفى كمال، اضطروا لسحب غالبية القوات المقاتلة من ليبيا بسبب فتح إيطاليا مع خلفائها الأوروبيين جبهات جديدة في البلقان ضد العثمانيين، في ما عرف بحرب البلقان الأولى، لتشتيت قواتهم بين جبهات متعددة ومتباعدة، إلا أنهم لعبوا دورا كبيرا في جهود تنظيم صفوف الفدائيين الليبيين، والحرص على ربط جهود القبائل الرافضة للاحتلال الإيطالي بعضها ببعض.

قرن مضى، تفكك خلاله نظام دولي وتشكل آخر، وتبدّلت فيه موازين القوة في العالم، عقب الحربين العالميتين ثم الباردة، تبدو تركيا اليوم المقبلة من بعيد، لاستعادة دور أكثر ريادية وتقدما في مشهد دولي صاخب، يشي بتحولات كبرى في العالم. جاء التحرك التركي الأخير لإسناد حكومة الوفاق الوطني في طرابلس برئاسة فايز السراج، ليحمل معه رسائل ودلالات واضحة تعكس الدور التركي في المشهد الإقليمي والدولي:

أولا: يمثل التحرك التركي خطوة تعتبر غير مسبوقة منذ مئة عام، إذا ما تجاوزنا عملية الإنزال العسكري التي قامت بها أنقرة في قبرص، في 20 يوليو 1974، بعد أن شهدت الجزيرة انقلابا عسكريا قاده نيكوس سامبسون، ضد الرئيس القبرصي مكاريوس الثالث. وجرى الانقلاب بدعم من المجلس العسكري الحاكم في اليونان. وفرضت تركيا عملية سلام لحماية القبارصة الأتراك، بل تأسيس «دولة قبرص التركية الاتحادية» في الشطر الشمالي من الجزيرة. ويعكس هذا التحرك التركي عنصرا جديدا في معالم السياسة الخارجية التركية.

 

أنقرة اليوم أكثر نزوعا لتبني سياسة خارجية نشيطة، تتفاعل مع التطورات الصاخبة التي تعيشها المنطقة والعالم

ثانيا: كشف التحرك التركي في الملف الليبي عن تحول في السياسة الخارجية التركية. فلم تعد فكرة تصفير المشكلات، أو صفر مشاكل مع الخارج، كافيا لحماية المصالح التركية وتأمين دورها الإقليمي، في ظل الأحداث الصاخبة والمعقدة حوالي تركيا، التي لم تعد مقاربتها بالسياسات الخارجية التقليدية. ويبدو أن تحيين وترقية الرؤية الخارجية، جاء نتيجة استخلاصات واضحة من المقاربة التركية، التي تم تبنيها في التعاطي مع الملف السوري، والتي تضررت منها أنقرة بشكل أو بآخر. وتبدو أنقرة اليوم أكثر نزوعا نحو تبني سياسة خارجية نشيطة ومرنة، تتفاعل مع التطورات الصاخبة التي تعيشها المنطقة والعالم.

ثالثا: يأتي التحرك في الملف الليبي، ليعكس صعود تركيا كقوة معتبرة في المنطقة والعالم، إذ توقعت دراسات دولية متعددة أنها ستكون ضمن أقوى 10 اقتصاديات في العالم في أفق 2030. وفضلا عن ريادتها في العديد من المجالات كالتصنيع العسكري، بما في ذلك الطائرات بدون طيار، والقطاع السياحي، واكتساح الدراما التركية العالم، تحوز تركيا ثاني أكبر جيش في حلف الناتو بعد الولايات المتحدة الأمريكية.

رابعا: تتجدد الأهمية الاستراتيجية لتركيا دوليا، من خلال موقعها الجغرافي داخل قارتين، شرقا آسيويا وغربا أوروبيا، وارتباطها بحدود مع 8 دول في لحظة، يمكّنها من لعب دور جيوسياسي متميز ومتقدم في العالم، ويؤهّلها منافسة العديد من القوى الإقليمية والدولية الأخرى، بحكم أفضلية وأهمية موقعها الاستراتيجي على خريطة العالم. كما تسهّل دور تركيا، الروابط التاريخية والثقافية والدينية، مع فضاء حضاري واسع، يجعل بناء الثقة والتعاون بينها وبين دول هذا الفضاء الواسع أيسر على المستوى الرسمي والشعبي.

خامسا: يأتي التحرك التركي، رغم محاولات إثارة الغبار حوله، منسجما مع مطلب الليبيين في وقف الاقتتال، ووضع حد لخمس سنوات من الاعتداءات التي تنفذها ميليشيات الجنرال المتقاعد خليفة حفتر على المدن والقرى الليبية، لمحاولة إخضاعها لنفوذه. اعتداءات أخضعت له المنطقة الشرقية بقوة الحديد والنار، بدعم عسكري سخي من دول إقليمية عربية، تطمح للتمكين لأنظمة عسكرية تسلطية في المنطقة، على غرار نظام عبد الفتاح السيسي في مصر. بيد أن التحرك التركي استجمع شروط نجاحه، من خلال التوافق مع الحكومة الشرعية في ليبيا، وبطلب منها، وجاء مدافعا عنها، لكسر التمرد الذي يقوده حفتر، لاسيما العدوان على طرابلس.

سادسا: أقدمت تركيا على هذا التحرك النوعي لحماية الشرعية الدولية في ليبيا، بعد أن توزع الموقف العربي، بين صمت وعجز كاملين في الدفاع عن حكومة معترف بها دوليا، أو حتى إبداء تأييد لها، وأطراف تبنت بشكل واضح وعلني دعم تمرد حفتر وعدوانه على طرابلس، بل دعمته عسكريا وقدمت له غطاء دبلوماسيا لحمايته من العقوبات الدولية، بل موّلت هذه الدول العربية على غرار مصر والإمارات استعمال حفتر لميليشيات مرتزقة أفارقة وروس في تمرده ومساعيه في الانقلاب على الشرعية. ولم تكن تركيا لتتدخل لو كان الوضع العربي قادرا على حماية الشرعية ووقف عدوان حفتر، بينما تراوحت مواقف العربية بين التآمر (محور الثورة المضادة) أو عدم الاهتمام بالملف الليبي (غالبية الدول العربية) بسبب انشغالاتها الداخلية.

سابعا: جاء التحرك التركي، في ظل ارتباك المواقف الدولية وضعفها. فأوروبا الغارقة في مشكلاتها الداخلية، لم تكن قادرة على بناء موقف موحد من الأزمة. فقد برز في لحظة ما، تراشق واضح بالاتهامات بين فرنسا الداعمة لحفتر وإيطاليا الحذرة من تصاعد الصراع في ليبيا، وانعكاساته عليها، من خلال الهجرة غير الشرعية. ولم يتردد وزير الخارجية الإيطالي بتذكير فرنسا بتاريخها الاستعماري وأطماعها المستمرة في افريقيا، بل حمّلها مسؤولية تفاقم الصراع في ليبيا. وقد حاولت ألمانيا، عبر «مؤتمر برلين» احتواء الأزمة، وتأطير الموقف الأوروبي، لكن فرنسا واصلت دعم حفتر بالتنسيق مع دول «محور الثورة» المضادة في المنطقة. وتجد باريس نفسها اليوم لا هي مكنت لحفتر، ولا هي التزمت برؤية أوروبية مشتركة. هذا الارتباك الأوروبي فهمته أنقرة موثقا ضعيفا لن يحتوي الأزمة الليبية، ففعلّت مقاربتها في معالجة الملف الليبي، بدعم الحكومة الشرعية وإسنادها في مواجهة تمرد حفتر. وقرأت أنقرة بذكاء الموقف الأمريكي المنزعج من التحركات الروسية في ليبيا، لاسيما إرسال مرتزقة «فاغنر» للقتال إلى جانب حفتر، ودعمه بالسلاح، فقد اضطرت واشنطن لعدم الاعتراض المباشر على التحركات التركية للحد من النفوذ الروسي.

ثامنا: نجحت تركيا بتدخلها بوقف جرائم حرب، كان عدوان حفتر على طرابلس يوشك أن ينفذها، فحفتر الذي ارتكب فظاعات في المنطقة الشرقية، ودمّر أحياء في بنغازي ليخضعه له بالحديد والنار، ظهرت فيديوهات توثق جرائم الميليشيات التابعة له، وهي تنفذ إعدامات جماعية، وتنكل بجثث معارضيه في بنغازي. وقد أصدرت محكمة الجنايات الدولية مذكرة توقيف في حق أحد زعماء الحرب التابع لحفتر محمود الورفلي، بعد أن تورط علنا بتصفية أشخاص رميا بالرصاص. كما كشفت المقابر الجماعية في ترهونة عن جرائم مروعة، ودفن أشخاص أحياء، فقط لأنهم يعارضون حفتر وعدوانه على طرابلس. وتثبت جرائم حفتر التي ارتكبها، والتي كان سيرتكبها، أن التحرك التركي في ليبيا كان أكثر من مطلوب ومن ملح لوقف مجاوز حفتر ووقف الاقتتال.

تاسعا: يمثل التحرك التركي في الملف الليبي، علامة فارقة يعكس تطورا وتحولا واضحا في السياسة الخارجية التركية. فتركيا التي انكفأت لعقود طويلة بُعيد الحرب العالمية الأولى، تنهض اليوم مختلفة في التعاطي مع القضايا الإقليمية والدولية. ويأتي هذا التغيير المتدرج ليعكس حجم التحول الداخلي الذي شهدته تركيا مع حزب العدالة والتنمية على مدى عقدين. تحول عميق يعيد تعريف تركيا الصاعدة، على قاعدة أن موقعها الجيوسياسي ليس نقمة جغرافية وإنما نعمة حضارية.

بعد مئة عام تعود تركيا من بعيد، أمة ناهضة متحفزة، تنحت نفسها تجربة نهضوية متجددة، ممتلئة الثقة بنفسها غير منكفئة، تتلمس طريقها إلى عمقها الاستراتيجي. سيقرأ الكثير هذا التحول باعتباره لحظة كونية جديدة واعدة، وسينظر له آخرون بحذر وريبة. المؤكد أن العرب أمامهم فرصة تاريخية لاختيار شريك استراتيجي جديد، والتخفف المتدرج من علاقات التبعية والهيمنة التي فرضتها عليهم معادلات نظام دولي، فحُشروا لعقود بين امبرياليتين متباينتين ظاهرا متحالفتين باطنا، تؤبدان حالة دونية عربية مستحكمة. إنها تركيا الأفق الجديد لشراكة ما بعد الامبرياليتين.
.

تركيا العائدة من بعيد
بواسطة/ جلال الورغي

 

جميع المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي “تركياالآن”
اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.