55 ألف صورة

يعتبر الحصار الذي تعرض له النبي صلي الله عليه وسلم مع الذين آمنوا به، حينما كانوا في مكة على مدار ثلاث سنوات في شعب أبي طالب، من بين أكثر المشاهد المعروفة في صفحات التاريخ الإسلامي. حينما رأى مشركو مكة أن طرق التعذيب والإهانة والتضييق لم تنجح، ولم تجعل المسلمين يتراجعون عن دينهم، اتجهوا نحو عملية أكثر رهبة، وهي فرض حصار مطبق على أي أحد من عائلة النبي “هاشم”. ووفقًا لذلك القرار الذي أجمعت عليه قريش آنذاك؛ عدم الزواج منهم، ومقاطعة جميع الأنشطة التجارية معهم، وعدم السماح لأحد يريد التواصل معهم من الخارج. وبالفعل على مدار 3 سنوات تعرض النبي ومن معه في شعب أبي طالب شمالي مكة، لوضع مأساوي من الجوع والعزلة، وجميع أنواع حملات الافتراء.

إن الصور الفظيعة التي كشف عنها أحد الضباط المنشقين عن النظام عام 2014 بعد أن فر خارج سوريا، وحمل لقب “قيصر”، أثارت انفعالًا كبيرًا. تبلغ الصور التي فر بها “قيصر” 55 ألف صورة خزّنها على فلاشة صغيرة، تعود تلك الصور إلى حوالي 11 ألف معتقل تعرضوا لأسوأ معاملة إنسانية في السجون السورية. هؤلاء المعتقلون الذين هم في الغالب من المدنيين، تعرضوا لكافة أنواع التعذيب، وتقطيع الأعضاء، وقلع الأعين، وتركهم للجوع، والقتل بطرق وحشية، ومن ثم أخذ صورة لكل واحد منهم للتسجيل. لقد تحول ما باح به “قيصر” خلال 12 و13 و18 يناير من عام 2014، ضمن سلسلة مقابلات طويلة، حول ما عاينه وشاهده في تلك السجون، إلى قانون شرعته أمريكا تحت اسم “قانون قيصر لحماية المدنيين السوريين”، فتح الطريق أمام سلسلة من العقوبات ضد نظام الأسد وداعميه إيران وروسيا. مع هذا القانون الذي دخل حيز التنفيذ في 17 يونيو/حزيران الجاري، تم بالفعل فرض عقوبات اقتصادية على العديد من الشخصيات والشركات السورية.

الحدث الأول في مكة (حصار النبي والمسلمين في شعب أبي طالب)، والثاني في سوريا (عقوبات قانون قيصر) وبينهما قرابة 1400 عام، كان في الحقيقة موضوع خطبة مثيرة في المسجد الأموي في سوريا ورمز دمشق، يوم 19 حزيران الجاري. كان الخطيب معروفًا للغاية، فهو توفيق البوطي ابن رجل الدين السوري الشهير سعيد رمضان البوطي، الذي قُتل إثر انفجار في دمشق عام 2013. توفيق البوطي الذي يبدو أنه اعتلا المنبر كنائب لوالده الراحل الذي طالما كان يخطب فوق هذا المنبر؛ كان يخطب ببث مباشر يتم عرضه على التلفزيون السوري، وقد شبه فيها العقوبات التي استهدفت النظام السوري وداعميه، بالحصار الذي كان مفروضًا على النبي وأصحابه في مكة. لم يمتنع البوطي كذلك عن تشبيه بشار الأسد بمقام النبي صلى الله عليه وسلم، من حيث أن العقوبات والحصار تم فرضها من أجل إزاحة أهل الحقيقية عن الصراط المستقيم. ووفقًا لخطابه، فإن أولئك الذين تمردوا على نظام الأسد وعارضوه، لا يختلفون عن مشركي قريش. بل إن البوطي قد تجاوز الحدود بما يفوق ذلك، ليصفهم بأنهم أقل حتى من المشركين. وذلك لأنه كان هناك عدد قليل من المشركين يحاولون مساعدة المسلمين آنذاك.

في الحقيقة إن سعيد رمضان البوطي صاحب الكتاب الشهير”فقه السيرة” والذي هو معروف للغاية في العديد من الأوساط في تركيا، كان قد صرح بأن جنود الأسد هم كالصحابة الذين كانوا يقاتلون جنبًا إلى جنب مع النبي. وفي المقابل قارن معارضي نظام الأسد بالمشركين. ما يعني أن توفيق البوطي يسير على نهج أبيه كذلك في هذه النقطة، وأنه يواصل عمله كذلك في توظيف أحداث التاريخ الإسلامي وتطويعها من أجل شرعنة ما يقوم به نظام البعث في سوريا.

وحشية النظام السوري التي لم يعد من الممكن إخفاؤها، وتهافت ما يسمى طبقة العلماء مع استثناء بسيط منهم، للدفاع عن تلك الوحشية غير مكترثين بفقدان اعتبار علمهم وسمعتهم بنظر الناس، والدعم الروسي-الإيراني غير المتناهي لنظام الأسد، متجاهلين كل الحدود، وكرامة الإنسان وحياته، والنفاق الأمريكي الذي يسمح بتداول صور لجثث عارية لمدنيين أبرياء، وذلك من أجل أجندة الولايات المتحدة الخاصة؛ جميع هذه الأشياء تعتبر علامات فارقة ومهمة للغاية في البلد الذي نسميه “سوريا”، على صعيد توازناتها الداخلية، والأدوار التي يلعبها اللاعبون الخارجيون. لقد كانت المرحلة الماضية مكلفة للغاية لنا جميعًا، من أجل التعرف على سوريا. دعونا نأمل ونتمنى أن تقرأ الأجيال القادمة في العالم الإسلامي، “التجربة السورية” بشكل أفضل واكثر منطقية، حتى تحمي نفسها من ارتكاب بعض الأخطاء التي نعيشها اليوم.

.

طه كلينتش بواسطة / طه كلينتش 

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.