السلطان عبد الحميد والمشروع الصهيوني في فلسطين

“إذا كنا نريد أن يبقى العنصر العربي متفوقًا، علينا أن نصرف النظر عن فكر توطين المهاجرين في فلسطين، وإلا فإن اليهود إذا استوطنوا أرضا تملكوا كافة قدراتها خلال وقت قصير، وبذا نكون قد حكمنا على إخواننا في الدين بالموت المحتم”.

تلك هي نظرة السلطان العثماني عبد الحميد لإخوانه العرب، وتلك هي نظرته لاستيطان اليهود في فلسطين، وهو ما دوّنه في مذكراته السياسية.

باستثناء السلطان محمد الفاتح، يعد السلطان عبد الحميد الثاني الذي تولى الحكم بين عامي 1876- 1909م، أقرب السلاطين العثمانيين لقلوب العرب وأقلهم تعرضا للنقد العربي، فإذا ذكر الرجل، ذكرت معه قضايا كبرى مثل: الجامعة الإسلامية، خط سكة حديد الحجاز، رفضه السماح لليهود بتكوين وطن قومي في فلسطين.

– حرب قصاصات التاريخ الممنهجة

إلا أن الأزمة السياسية الحالية بين تركيا وبعض الدول العربية، قد أتت على الأخضر واليابس من صفحات التاريخ العثماني، وشملت حرب قصاصات التاريخ الممنهجة كل الحكام الأتراك بمن فيهم السلطان عبد الحميد.

تلك الحرب حولت صموده البطولي في وجه تمكين الصهاينة من فلسطين، إلى ورقة يحارب بها هذا الرجل، فيتهم بأنه السبب في الاستيطان اليهودي بفلسطين.

“انصحوا (رائد المشروع الصهيوني في فلسطين تيودور) هرتزل ألا يتخذ خطوات جديدة حول هذا الموضوع، لأنني لا أستطيع أن أتنازل عن شبر واحد من الأراضي المقدسة لأنها ليست ملكي، بل هي ملك شعبي، وقاتل أسلافي من أجل هذه الأرض، ورووها بدمائهم، فليحتفظ اليهود بملايينهم، إذا مزقت دولتي من الممكن الحصول على فلسطين بدون مقابل، ولكن لزم أن يبدأ التمزيق أولا في جثتنا”.

يظن كثير من الناس أن هذا الموقف التاريخي الذي جسد صمود السلطان عبد الحميد أمام العروض المغرية التي تقدم بها إليه زعيم الصهيونية هرتزل، يظنون أنه المُعبِّر الأوحد عن اهتمامه بفلسطين وصيانتها من الضياع، غير عالمين أن هناك جهودا كبيرة قبله وبعده، قام بها عبد الحميد للحفاظ على فلسطين.

-أصل الحكاية

نبدأ الحكاية من نهايات القرن الخامس عشر الميلادي، عندما طُرد اليهود من إسبانيا وبعض دول أوروبا، ففتحت الدولة العثمانية أبوابها أمامهم، انطلاقا من تعاليم الإسلام السمحة، فأقام اليهود في القدس وغيرها كمواطنين ينعمون بالعدل في ظل الحكم الإسلامي، ولم تكن هي الفترة الوحيدة التي هاجر فيها يهود أوروبا إلى القدس.

يقول د. حسان حلاق في كتابه “موقف الدولة العثمانية من الحركة الصهيونية: “بعد خضوع فلسطين للحكم العثماني في أوائل القرن السادس عشر، بدأ يهود أواسط أوروبا يهاجرون إليها، وأقاموا في الأماكن المقدسة: القدس، طبريا، صفد، الخليل، وفي منتصف القرن الثامن عشر هاجر عدد من يهود بولندا وروسيا إلى فلسطين بسبب اضطهادهم هناك واستقر معظمهم في صفد وطبريا حيث لاقوا الحماية والأمن”.

وتحت مظلة الاضطهاد وجد اليهود لأنفسهم موطئ قدم في فلسطين هربا من الاضطهاد، ولم ير العثمانيون خطرًا في ذلك، إذ أنهم يقيمون مستوطنات زراعية يستفيد منها أهل فلسطين، إلى أن جاء زمن السلطان عبد الحميد الذي تولى الحكم في ظروف ضعف ومخاطر تحيق بالدولة العلية.

وبدأت المحاولات الاستيطانية مع عبد الحميد، والذي قابلها بصرامة خاصة بعد صعود الحركة الصهيونية إلى السطح واتضاح أهدافها، فكان للسلطان جهود مستمرة في محاولة منع الاستيطان اليهودي، والذي كان قد تم بصورة محدودة بسبب ضغوطات الدول الأوروبية والامتيازات الحاصلة عليها.

1 – كانت أولى جهود السلطان عبد الحميد ضد توطين اليهود في فلسطين، بعدما اشترك اليهود في اغتيال ألكسندر الثاني قيصر روسيا 1881م، والذي ترتب عليه ممارسة الاضطهاد ضدهم، فآثر عدد منهم الهجرة إلى فلسطين، ليس فحسب من أجل الاعتبارات الدينية والتاريخية التي تشدهم إليها.

ولكن كما قال المؤرخ المصري عبد العزيز الشناوي كانوا يعتقدون كيهود شرقيين أن المعيشة في فلسطين كإقليم شرقي أكثر ملاءمة لهم من الحياة في دول أوروبا أو الولايات المتحدة.

تقدمت حركة محبي صهيون إلى القنصل العثماني في ثغر أودسا بطلب منحهم تصريحا بدخول فلسطين، فجاء الرد من الباب العالي أنه غير مسموح لهم بالإقامة في فلسطين، وباستطاعتهم أن يقيموا في غيرها بشرط أن تكون أعدادهم قليلة ويتجنسون بالجنسية العثمانية.

وكان الرد صدمة لهؤلاء اليهود الروس، لكنهم أعادوا المحاولة، ورغم تدخل السفير الأمريكي في إسطنبول، إلا أن التأكيد كان دائما أن هذه الإجراءات تتماشى مع السياسة العليا للدولة العثمانية.

إزاء هذا الرفض، تسلل مجموعة من اليهود إلى يافا في يوليو/ تموز 1882م، فأبرق الباب العالي إلى حاكم القدس بعدم السماح ليهود روسيا أو بلغاريا أو رومانيا بأن يهبطوا أرض فلسطين، وذات الإجراءات اتخذت بشأن إقامتهم في حيفا وبيروت واللاذقية وسائر موانئ الساحل الشامي.

-قرار بمنع استيطان اليهود

2 – بأوامر من السلطان عبد الحميد، تم إرسال مذكرة رسمية في 21 يناير/ كانون ثان 1883م، إلى رؤساء البعثات الدبلوماسية في إسطنبول، بنص قرار مجلس الوزراء العثماني بمنع استيطان اليهود الروس في فلسطين، فواجه السلطان ضغوطا أوروبية شديدة.

وإزاء ذلك، أصدر الباب العالي عام 1884م، تعليمات بالسماح لليهود بدخول فلسطين فقط لزيارة الأماكن المقدسة، شرط ألا تزيد مدة إقامتهم فيها عن ثلاثين يوما.

ومع ازدياد ضغط العواصم الأوروبية المتعاطفة مع اليهود على الباب العالي، اضطر السلطان عبد الحميد أن يمد فترة إقامة اليهود لزيارة الأماكن المقدسة إلى ثلاثة أشهر بدلا من شهر، ويلاحظ هنا أنه قام بتمديد الفترة، مع الإبقاء على الهدف الأساسي وهو منع إقامة اليهود في فلسطين.

3 – بعد وضوح أهداف الحركة الصهيونية في فلسطين، قام السلطان عبد الحميد بتغيير الوضع الإداري للقدس، بما يقلب الموازين، فجعلها متصرفية خاصة تابعة للباب العالي رأسا وذلك في عام 1887م، بعد أن كانت قبل ذلك صنجقية تتبع والي دمشق.

وبهذا القرار أصبحت القدس التي تتطلع إليها الأعين الصهيونية لها وضعيتها المتميزة، حيث أصبحت قسما إداريا قائما بذاته يتبع الباب العالي بصورة مباشرة، وكان الهدف من ذلك هو تمكين الدوائر الحكومية في العاصمة إسطنبول من إحكام المراقبة على الهجرات اليهودية.

4 – عين السلطان عبد الحميد رجلا صارما على متصرفية القدس، معروفا بحبه للعرب وعدائه للأوروبيين، وهو محمد شريف رؤوف باشا، فمكث في القدس فترة (1877- 1889م)، وكان رافضا بشدة للاستيطان اليهودي، ويرسل قواته باستمرار لتعقب اليهود المقيمين بطريقة غير شرعية في القدس، ووضع الصعوبات أمام اليهود الأجانب الذين أصبحوا رعايا عثمانيين وحاولوا شراء أراض وبناء مستوطنات.

– تدخل السفراء الأوروبيين لصالح اليهود

ورغم جهود رؤوف باشا في منع استيطان اليهود، لم يستطع إيقاف بناء بعض المستوطنات، وذلك بسبب تدخل السفراء الأوروبيين لصالح اليهود، وبعض ضعاف النفوس من موظفي الدولة العثمانية الذين تلقوا الرشوة لتيسير الإجراءات، لأن رواتبهم كانت ضعيفة، بسبب تدهور الاقتصاد العثماني.

إضافة إلى أن بعض السكان في القدس قد وافقوا على بيع أراضيهم نتيجة العروض المغرية، والتي كان يقدمها اليهود بأنفسهم أو عن طريق شخصيات وهمية كما ذكر حاييم وايزمان في مذكراته.

ولكن بعد اكتشاف الباب العالي أن الموظفين في ميناء يافا كانوا يرسلون للوالي معلومات شهرية خاطئة تفيد برحيل اليهود الذين دخلوا البلاد قبل شهر، شدد السلطان عبد الحميد في تعليماته على متصرفية القدس بمنع استيطان اليهود، وعمّم منشورا عاما لكل متصرفيات الدولة العثمانية وسفارات وقنصليات الدول الأجنبية عام 1900بمنع توطين اليهود في القدس.

5 – بعد المؤتمر الصهيوني الأول في بال (بازل) في سويسرا، وتزعُّم تيودور هرتزل الحركة الصهيونية، واستمالتها للدول الكبرى وأصحاب روؤس الأموال الضخمة في العالم (روتشيلد مثالا)، مارس هرتزل على السلطان ضغوطات لفتح باب الهجرة لليهود إلى فلسطين، وقدم في هذا الاتجاه إلى السلطان عروضا مالية مغرية، لكنه عاد من لقاء السلطان صفر اليدين.

أوعز عبد الحميد لرجاله بتتبع الحركة الصهيونية ومراقبتها والوقوف على أهدافها، وأرسل بذلك إلى سفرائه في العواصم الأوروبية، فكانوا يرسلون له التقارير باستمرار عن الحركة، وأرسلوا مخبرين عثمانيين متنكرين إلى المؤتمرات الصهيونية وإرسال قصاصات الصحف المتعلقة بنشاطهم في أوروبا، وقام السلطان عبد الحميد باعتماد ميزانية خاصة للدعاية المضادة لتلك الحركة.

– منع المؤتمرات الصهيونية

6 – ومن جهود عبد الحميد لمنع إقامة دولة صهيونية في فلسطين، قيامه بمنع المؤتمرات الصهيونية فيها، ففي مستعمرة “زخرون يعقوب” عام 1901م، عقد أول مؤتمر صهيوني بفلسطين، لتوحيد وتنظيم صفوف اليهود على سبيل جس نبض العثمانيين، وهذا من شأنه أن يدعم الحركة الصهيونية ويشد اليهود أكثر إلى فلسطين، لكن تنبه السلطان عبد الحميد لهذه المؤامرة وأوقف هذه الأنشطة في فلسطين فلم تنعقد ثانية.

7 – تصدى السلطان عبد الحميد لمحاولة إنشاء جامعة عبرية في القدس، كان هدف الصهاينة منها استقطاب الأساتذة اليهود في جامعات العالم، لتكون هذه الجامعة وسيلة للتسلل الثقافي الصهيوني ودعامة علمية للدولة اليهودية التي يأملون في إنشائها، ورغم محاولة هرتزل لتزيين أهميتها للدولة العثمانية، إلا أن عبد الحميد قد رفض بصرامة هذه المحاولة.

-محاولة اغتيال

8 – كان من آثار وقوف السلطان العثماني في وجه الاستيطان اليهودي في القدس، أنه تعرض لمحاولة اغتيال، حيث قدم كارل إدوارد ملك إنجلترا المنتسب للمحفل الماسوني والصديق الحميم لليهود، بدفع مبلغ 13 ألف ليرة ذهبية لمنظمات أرمنية لتفجير قصر يلدز وقتل السلطان وتدمير البنك العثماني، إلا أن القوات العثمانية أحبطت المؤامرة.

وكذلك حاول اليهود اغتيال السلطان في سويسرا بتمويل من إدوارد، عن طريق تفخيخ العربة التي يستقلها السلطان عبد الحميد إلا أنه نجا من الحادث وقتل عدد كبير من الجنود، كما يعد موقفه من المشروع الصهيوني أبرز العوامل التي أسهمت في الإطاحة به من حكم الدولة العلية.

ربما يجدر بنا بعد هذا السرد التاريخي أن نشير إلى النقاط التالية:

أولا: وجود اليهود في فلسطين سابق على عهد السلطان عبد الحميد بسبب التسامح العثماني مع اليهود المضطهدين، تطبيقا لسماحة الإسلام.

ثانيًا: الهجرات اليهودية المحدودة إلى فلسطين في عهد السلطان عبد الحميد كانت قبل الوقوف على أخطار المشروع الصهيوني، وكان الباب العالي لا يرى خطرًا منها، وينظر إلى تلك المستعمرات على أنها نشاط زراعي يسهم في تطوير الزراعة بفلسطين ويدعم الاقتصاد العثماني.

ثالثا: السلطان عبد الحميد دافع باستماته عن توطين اليهود بفلسطين، رغم تعرضه لضغوطات أوروبية شديدة، جعلته يسدد ويقارب، خاصة مع ضعف الدولة وتدهور اقتصادها والفتن والقلاقل التي ترعاها الدول الأوربية داخل الأراضي العثمانية.

رابعًا: القول بأن السلطان عبد الحميد مهد لقيام دولة إسرائيل، هو قول ينم إما عن جهل صاحبه بالوقائع التاريخية المتعلقة بتلك القضية، أو عن حقد أعمى وفُجر في الخصومة ومحاولة لتشويه التاريخ العثماني نكاية في تركيا الحديثة قيادة وشعبًا، وإلا فإن علماء ودعاة ومؤرخي وكُتّاب الدول المعادية لتركيا، كانوا لا ينفكون عن الإشادة بالسلطان عبد الحميد خاصة بموقفه من توطين اليهود بفلسطين.

فما الذي تغير؟.. لا شيء، سوى الخصومة السياسية.

.

بواسطة/ إحسان الفقيه/الأناضول

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.