ما الذي يقلق أنقرة في التصعيد الأرمني؟

الصراع في “قره باغ” بين أذربيجان وأرمينيا احتدم عام 1988 مع تفكك الاتحاد السوفياتي وتحول الجمهوريات السوفياتية إلى دول مستقلة وهو مستمر حتى اليوم كأزمات تحت الرماد يتم تحريكها بين الحين والآخر رغم النفوذ والثقل الروسي في التوسط لإنهاء النزاع مع دولتين جارتين لهما علاقات استراتيجية متعددة الجوانب مع موسكو.

تحتل القوات الأرمنية منذ عام 1992، نحو 20 بالمئة من الأراضي الأذرية التي تضم إقليم “قره باغ” ومناطق أخرى غربي البلاد، إضافة إلى أجزاء من آغدام وفضولي.

 

المفاجأة لم تكن في تجدد الاشتباكات بين الجيشين الأذري والأرمني في مناطق متنازع عليها منذ عقود بل في اندلاعها داخل مثلث حدودي استراتيجي في منطقة توفوز القريبة من الحدود التركية الأذرية والأرمنية.

 

هجمات الجيش الأرمني في هذه البقعة الجغرافية البعيدة عن مناطق الصراع الكلاسيكي بين باكو ويريفان حوالي 300 كلم حملت معها تساؤلات كثيرة بينها توقيت التصعيد واختيار المكان والأهداف الحقيقية لهذه العمليات العسكرية الأرمنية رغم أزمات البلاد الاقتصادية والسياسية ورغم التفوق العسكري الواضح لأذربيجان في هذه اللعبة.

 

أنقرة سارعت لإدانة هذا التصعيد الأرمني ودعت يريفان لاحترام القانون الدولي ومغادرة المناطق التي تحتلها التزاماً بقرارات مجلس الأمن رقم 822 و853 و874 و884، التي تطالب أرمينيا بإنهاء احتلالها للأراضي الأذربيجانية. لكن تركيا رفعت من مستوى التنسيق العسكري والدعم اللوجستي لأذربيجان في أعقاب لقاءات عسكرية رفيعة عقدت بشكل سريع يبدو أنها تشمل إرسال المسيرات التركية الحديثة لأذربيجان.

 

من الممكن للوهلة الأولى اعتبار ما يجري رسائل تصعيد ضد روسيا وإيران في المنطقة بسبب علاقاتهما مع يريفان وباكو وحجم التعاون والتنسيق المشترك ومصالحهما الاستراتيجية هناك. لكن أكثر من مؤشر يقول إن فتح هذه الجبهة في منطقة نفوذ تركية متعددة الأهداف والجوانب تعني أنقرة بالدرجة الأولى ومحاولة توجيه رسائل سياسية وأمنية واقتصادية لها هناك.

 

ما الذي يقلق أنقرة اليوم في هذا التصعيد؟

 

الهجوم ليس صدفة بل هدفه إلهاء تركيا من خلال فتح جبهات تصعيدية إقليمية ضدها لإرباكها وتشتيت قواها في سوريا وليبيا وشرق المتوسط وأفريقيا.

 

عندما يكون الموضوع هو الملف الأرمني نرى العديد من القوى الإقليمية والغربية تتوحد وتلجأ إلى الدياسبورا المنتشرة في العالم لعقد الاتفاقيات والصفقات السياسية والأمنية معها. ما يجري اليوم هو حلقة من التفاهمات لتفجير الوضع بتحريض إقليمي من المحتمل أن يكون يجمع الثلاثي الإماراتي الفرنسي المصري بضوء أخضر روسي لتضييق الخناق على أنقرة في ليبيا.

 

الرئيس الروسي بوتين يحاور نظيره التركي أردوغان بشكل دائم ومع ذلك تشتعل جبهة عسكرية في منطقة النفوذ السياسي والاقتصادي الروسية والتركية. هل يمكن أن يحدث هذا الخرق الأرمني ضد أذربيجان رغماً عن موسكو ودون معرفتها وإذنها؟

 

احتمال أن تكون روسيا المنزعجة من التقارب التركي الأميركي في الملف الليبي تريد تذكير أنقرة بقدرتها على إزعاجها هي الأخرى في حديقتها الخلفية البلقان والقوقاز وأسيا الوسطى.

 

أرمينيا التي تعاني من أزمات داخلية كثيرة تحتاج إلى فرصة دعم تساعدها على تجاوز محنتها. الدياسبورا نصحت يريفان بالتفجير بعدما تفاهمت مع ممولين أغنياء في إطار العروض المغرية التي حصلت عليها من أكثر من لاعب إقليمي يهمه تضييق الخناق على تركيا في المنطقة.

 

اختيار منطقة التصعيد يعني استهداف مشاريع تركية عملاقة بينها خط سكك الحديد باكو تفليس قرص وخط نقل الطاقة باكو – جيهان وخطط طريق الحرير التي تبحثها تركيا مع بكين وموسكو على السواء لذلك احتمال الانزعاج الأميركي والإيعاز للدياسبورا بتحريك الأحجار هناك بين السيناريوهات المطروحة أيضا.

 

يريفان تهدد بالتصعيد واستهداف مراكز حيوية وحياتية استراتيجية تعني موسكو ومصالحها هناك. توقيت تصريحات وزير الخارجية الأميركي ودعواته لإنهاء مشروع نقل الطاقة التركي في المنطقة مقلقة حقا إذا ما أخذنا بعين الاعتبار انزعاج واشنطن من التقارب والانفتاح التركي الروسي الواسع في خطط الطاقة والتعاون العسكري بين البلدين.

 

تسخين الجبهات الكلاسيكية القديمة وفتح جبهات جديدة ضد تركيا مطروح دائما بعدما قررت أنقرة تغيير سياستها الخارجية وتبني ميثاق القفز إلى الأمام في المواجهات الأمنية والعسكرية كما حدث في سوريا وليبيا. أردوغان بدأ يذكر الأشياء بأسمائها “التدخلات المصرية في الشأن الليبي غير شرعية وموقف الإمارات قرصنة”.

 

هي المواجهة الأخطر منذ انفجار الوضع قبل 4 سنوات على الجبهات الأذرية الأرمنية وإذا لم تدخل موسكو بشكل سريع على خط إنهاء هذا التوتر فسيتركها عرضة للشبهات في نظر تركيا. هل الكرملين أيضا شريك في المؤامرة أم هي تتم دون معرفته ورغماً عنه خصوصاً مع موجود شبكة العلاقات الروسية الأميركية الفرنسية تحت سقف تفاهم “مينسك” وبناء روسيا لمنظومة معاهدة الأمن الجماعي التي تجمعها مع العديد من الجمهوريات التركية وأرمينيا؟

بواسطة/ د. سمير صالحة
اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.