الملائكة وأوليا جلبي في آيا صوفيا

السلطان مراد الرابع الذي صعد على العرش العثماني وهو لا يزال طفلًا، لم يلبث إلا وقد بزمام الأمور واستتبت له في عام 1630 وما بعده. لطالما كان يمشي متنكرًا في الأسواق لجس نبض الناس ومطالعة أحوالهم. كان يؤدي صلاة الجمعة ومراسم التحية بعدها في مسجد آيا صوفيا، كما أنه كان يصلي التراويح هناك بدلًا من القصر.

في إحدى ليالي رمضان، بينما كان السلطان مراد الرابع يؤدي صلاته طرا على أذنه صوت ليس مألوفًا له بالعادة، وبما أنه كان موسيقيًّا ومؤلفًا للموسيقى، لم يستطع أن يكون غير مبالٍ بذلك الصوت العذب المتقن الذي كان يرتل ابتهالات تُعرف بالعشر الشريف من رمضان، فطلب أن يتعرف على صاحب هذا الصوت. كان صاحب الصوت شابًّا من طلبة مدرسة آيا صوفيا قدّمه معلمه للسلطان. لم يلبث وقت طويل حتى دعا السلطان ذلك الشابَّ إلى القصر. لم يتأثر السلطان أو يُعجب بصوت هذا الشاب فحسب، بل كذلك من ذكائه وفطنته وسرعة بديهته وثقته بنفسه في حضرة السلطان. حيث كان جوابه بعد كل مرة يُطلب فيها منه القراءة، مصدر دهشة للسلطان.

حيث كان يجيبه ذلك الشاب العشريني ما معناه؛ “سيدي السلطان، أيًّا كان مرادكم الشريف فأنا حاضر لتلبيته، من غناء العرب والفرس والروم والعبراني والسرياني واليوناني والتركي، وجميع أنواع الشعر والنغم والمقامات، وشعر المراثي والغزل وجميع تصنيفات الشعر وأنواعه”.

كان يصيب السلطان بالدهشة من قوة ثقته بنفسه واعتداده بها، حيث كان يعرض عليه أنه حاضر لتلبية طلب السلطان لتلاوة أو ترتيل أي نوع من أنواع الشعر والغناء باللغات الشرقية والغربية، فمن هو ذلك الشاب يا ترى؟

لقد أصيب السلطان بحيرة أكبر عندما علم أنّ هذا الشاب هو ابن “محمد ظلي”، الذي كان من ضمن مستشاري السلطان وملازمي مجلسه منذ سنوات عديدة، مما جعل السلطان مراد الرابع يغضب من محمد ظلي لأنه لم يعرفه على هذا الابن الموهوب من قبل، إلا أنه من ناحية أخرى زادت درجة محمد ظلي لديه كونه أبًا لهذا الشاب، كما أمر السلطان إدراجه ضمن مستشاريه وأصحابه إلى جانب أبيه.

نعم، ذلك الشاب الموهوب الذي كان من طلبة مدرسة آيا صوفيا آنذاك، هو “أوليا جلبي”، الذي ترك من بعده كتابه الشهير من عشر مجلدات “سياحت نامه” أي كتاب الرحلات، والذي أثرى الثقافة والتاريخ التركي، ويعتبر ميراثًا عظيمًا وتحفة من التراث العالمي لا يقل أهميته عن آيا صوفيا، ولا يزال يُقرأ بعناية حتى هذا الوقت. دعونا الآن من تقييم هذا الأثر العظيم الذي لا نوفيه حقه، ولنلق نظرة على بعض ما تناوله حول آيا صوفيا.

إن ما كتبه أوليا جلبي عن آيا صوفيا، نابع عن مهارة عجيبة في تسجيل الأحداث، حيث يعرضها وكأن كاميرا حقيقية تصورها لك، وإن ما كتبه حول آيا صوفيا في الحقيقية يصيب بالدهشة أكثر مما أصاب السلطانَ بالدهشة من جواب جلبي. من ناحية يقوم جلبي في ما كتبه حول آيا صوفيا على جمع المواد الفولكلورية، ومن ناحية أخرى يدل على أن ما بعض معلوماتنا حول آيا صوفيا اليوم خاطئة.

من المعلوم أن مسجد آيا صوفيا الذي تم تحويله من كنيسة آنذاك، كانت جدرانه تحوي على رسومات لا تزال موضع نقاش اليوم. ومن المعلوم أن السلطان محمد الفاتح قام بطلاء تلك الرسومات بنوع خاص، ليقوم السلطان عبد المجيد من بعده بإعادة ترميم ذلك على يد الإخوة فوساتي السويسريين.

إلا أن أوليا جلبي الذي ترعرع في آيا صوفيا يحكي غير ذلك، حيث يشير إلى أن الرسومات كانت موجودة في منتصف القرن السابع عشر، وأن خطوطًا على طراز “كارا حصار” تم تزيين جدران وقبة آيا صوفيا بها، في عهد السلطان مراد الرابع. بالطبع ليس من وظيفتنا أو حدّنا أن نناقش صحة صلاة السلاطين والعلماء والأئمة وأهل الإسلام قرابة قرنين من الزمن تحت تلك الرسومات والصور التي كانت على الجدران. دعونا من أولئك المبتذلين الذين يصطادون في الماء العكر، ولنستمع إلى ما رآه وعاينه أوليا جلبي في مسجد آيا صوفيا الكبير الذي وصفه بقبة الفقراء:

بعد أن جمع الروايات الأخرى التي لا تزال موضع نقاش اليوم، حول الرسومات التي على القبة الرئيسية في آيا صوفيا وما حولها، والتي تعتبر محط إعجاب ودهشة العالم بأسره، يقول ما معناه؛ “الأشكال الغريبة والعجيبة التي على القبة والجدران، تبدو وكأنها على قيد الحياة حينما تنظر إليها بتأمل”. إلى جانب تلك الصور على القبة وما حولها، يتعرض جلبي لما وصفه بصورة ملاك في أربع زوايا، قائلًا “لا تزال قائمة بأجنحتها تلك الملائكة، جبرائيل وميكائيل وإسرافيل وعزرائيل”. إن أوليا جلبي يصف تلك الرسومات على جدران آيا صوفيا وقبتها وزواياها، في منتصف القرن السابع عشر، ما معناه أن تلك الرسومات لم يتم تغطيتها في زمن الفاتح، كما هو متداول اليوم.

دعوني أختم المقال بهذه البشارة، لقد تم افتتاح مركزين في جامعة السلطان محمد الفاتح الوقفية، من أجل مناقشة ودراسة أوليا جلبي وآيا صوفيا بآن واحد، ولقد تم افتتاحهما قبيل إعادة فتح آيا صوفيا للعبادة الشهر الماضي. ستتناول هذه الدراسات والأبحاث أعمال الترميم وغيرها في آيا صوفيا، كما سيتم إجراؤها تحت إشراف الباحث المخضرم المتخصص بآيا صوفيا تحديدًا، إلى جانب أحد المتخصصين القلائل في العالم حول تراث أوليا جلبي. وبفضل تلك الدراسات أعتقد أن كثيرًا من أخطائنا سوف تُصحّح.

.

زكريا كورشونبواسطة \زكريا كورشون  

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.