أزمة ماكرون النفسية

تصريحات الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون التي أدلى بها حول الإسلام الأسبوع الماضي، تُعتبر من النوع الذي لا يستحق الوقوف عنده، من حيث كونه هذيانًا من حيث المضمون والاتساق. إلا أنّ أرشيف القائل إلى جانب بيئة المقال يحتّمان علينا الوقوف عند تلك التصريحات. لا سيما وأنّ علم النفس يخبرنا بوجود انعكاسات للعقل الباطن والهذيان.

إن الأزمة التي قال ماكرون أن الإسلام يعيشها، ما هي في الحقيقة إلا انعكاسًا لحالة ماكرون النفسية. من الواضح جدًّا أنه يعاني من خوف وكراهية من الإسلام. حيث أن الإسلام بوضعه الحالي لا يتوافق والعالمَ الذي يديره ويسعى لتأسيسه ماكرون. إن الإسلام بلباسه وزيّه ومعاشه وفلسفته يبقى مجرد فضلة يعطل مزاج وذوق ورفاهية العالم الذي يريده ماكرون. لا يستطيع ماكرون أن يطالب بالقضاء على الإسلام كله، ولذلك يدعو إلى تغييره. لطالما كان ولا يزال أولئك الذين لا يتقبّلون الإسلام كما هو. يتحدثون عن تغييره وعدم تكيفهم معه، من منطلق الغطرسة النابعة عن جهل وتكبر.

انظروا عبر التاريخ ألن تجدوا أن الحديث عن إصلاح الإسلام يتصدّر بهذه الطريقة ذاتها؟

ثمّ إن حديث ماكرون عن الإسلام بهذه الكلمات، في خضم خطابه حول “محاربة الأفكار الانفصالية” التي هي على جدول أعمال الحكومة الفرنسية، يضيف معنى آخر للقضية. وعلاوة على ذلك قال ماكرون خلال خطابه أن هدفه هو عدم تعرّض المسلمين في فرنسا للتمييز. إلا أنه لتحقيق هذا الهدف عليه أن يحارب “الأفكار الإسلامية الانفصالية”، حسب قوله. وإضافة إلى ذلك أشار في خطابه إلى أن الأيديولوجية الإسلامية التي تدعو للانفصالية تشكّل أزمة، وأن أفراد هذه الأيديولوجية يعتبرون قوانينهم الخاصة فوق قوانين فرنسا.

إن وضع جميع المسلمين في فرنسا تحت التهمة، وهم يشكلون ما لا يقل عن 10% من مواطني بلدك. من أجل محاربتك للأفكار والأفعال الانفصالية، يعتبر أفضل مثال على الجهل المستنير.

هل نبدأ بقراءة أرشيف ماكرون وأرشيفه في الإمبريالية الفرنسية، من خلال سؤال.ماذا يفعل المسلمون الفرنسيون الذين يشكلون 10% في بلدهم؟

معظم هؤلاء المسلمين الموجودين في فرنسا هم من شمال ووسط إفريقيا التي قامت فرنسا باستعمارها.

لم تمارس فرنسا الانفصالية أو التمييز أبدًا حينما كانت تستغل تلك الشعوب وسط بلادهم دون هوادة. بل ساوت فيما بينهم من خلال عدم التعامل معهم كبشر، وبذلك جسّدت فرنسا مفهومها للمساواة منذ ذلك الحين. حينما كانت تستغل جميع موارد بلدان تلك الشعوب وتنهبها. كانت في الوقت ذاته تغتصب هوياتهم ولغاتهم ومحارمهم وشرفهم دون تمييز.

إن مسلمي فرنسا شاهدون على استعمار فرنسا وتمييزها وأرشيفها اللإنساني، وسيظلون مصدر إزعاج بلا شك، لأنهم توصلوا إلى قناعة تجعلهم لا يقبلون بتسليم أرواحهم ومستقبلهم مهما فعل ماكرون أو غيره. هذا الشعور بمثابة مقابل مضاد للرفاهية التي يشعر بها ماكرون، الرفاهية التي سرقتها فرنسا من أجداد مسلمي فرنسا ولا تزال جاهدة تسعى للحفاظ عليها. ثمّ إن أصل المشكلة أو الأزمة في الحقيقة ليس بوجود المسلمين في فرنسا، بل الأزمة تكمن في الشعور الذي ينتاب ماكرون ومن على شاكلته حين رؤيتهم لمسلمي فرنسا، حيث يقودهم هذا الشعور إلى الخوف الذي يفرزه ماضيهم.

إن الإسلاموفوبيا يعتبر مرضًا نفسيًّا خطيرًا، لا سيما في البلدان ذات الماضي الاستعماري. أو التي لا زالت تواصل سياسة الاستعمار والاستغلال، أو تلك البلدان التي تعيش داخل غطرسة تنويرية. وهذا المرض يشير بدوره إلى وجود ذنب. كما أنه يتغذّى على الشعور بالخوف من أن ينهض من ظلموه فجأة ويسعى للانتقام منهم.

يقول جاك لاكان مؤسس التحليل النفسي البنيوي، وبالمناسبة هو فرنسي. يقول أن أكثر من يخاف من الأشباح في الأفلام والحكايات هم القتلة.

نجد العالم الغربي اليوم يعيش كابوسًا كل يوم حين رؤية الإسلام يظهر بوضوح أكبر. بعد أن ظنّوا أنهم تمكنوا من وأده، إنهم يعيشون كابوسًا يوميًّا لأنهم أنفسهم يعترفون بحق الانتقام للإسلام، إلا أن الإسلام على الرغم من عدم سعيه لهذا الانتقام. وعلى الرغم من مواصلته نشر رسائل الرحمة من أجل الإنسانية. فإن مجرد بروزه أمامهم يذكّرهم باحتمالية الانتقام فيتملكهم الخوف، يخافون لأنهم يعرفون جيدًّا ما الذي فعلوا بحق المسلمين على مدى قرن من الزمن.

لطالما كانت الأسماء للامعة في الفكر الفرنسي، هي من أخبرت الأوروبيين أنفسهم بأن جميع مزاعم التنوير خاطئة. هؤلاء المفكرون أنفسهم الذين يوصفون بأنهم ما بعد الحداثة أو ما بعد البنيوية؛ حكموا على زيف الحداثة وبطلانها بعد ما عايشوا ممارسات فرنسا في الجزائر. وإن ما كتبه أو قاله كلّ من كامو وألتوسير وفوكو ودريدا وغوتاري ودولوز الفرنسيين. ركز على جهل وعنصرية ووثنية الحداثة في فرنسا بشكل خاص وفي الغرب بشكل عام.

إن الذي دفع ماكرون اليوم للحديث بهذا الشكل ليس مستقلًا عن الحالة النفسية هذه، والتي تتحول إلى كابوس يطارده كل يوم من خلال الأحداث التي يعيشها. مثال قريب على ذلك. الرهينة الفرنسية صوفي بترونين آخر رهينة فرنسية في مال يتم إطلاق سراحها الأسبوع الماضي، فبينما كان ماكرون يستعد لاستغال الحدث من اجل مهاجمة الإسلام، شعر بصدمة مذهلة حينما اعلنت صوفي المعروفة أنها ناشطة إنسانية. إسلامها لحظة نزولها في المطار.

لا شك أن ماكرون أصيب بالذهول، لا سيما حينما أخبرته صوفي أنها اسمها لم يعد كذلك، بل صار مريم. مما جعل ماكرون يغادر بخفي حنين وقد ألغى المؤتمر الصحفي الذي كان يفكر في عقده.

.

أزمة ماكرون النفسية - ياسين اكتاي
أزمة ماكرون النفسية – ياسين اكتاي

بواسطة  / ياسين اكتاي  

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.