من القانون الأساسي إلى يومنا هذا

39 عامًا مضت على الدستور الموجود حاليًّا بين أيدينا، بعد اعتماده إثر استفتاء شعبي في ذلك الوقت، ولا شك أنّ التغييرات العديدة التي طرأت عليه منذ ذلك الحين حتى الآن قد غيرت من ملامحه الأولى. لا سيما وأنه قد تمّ فرضه عبر استفتاء جرى في ظل ظروف الطوارئ، في 12 سبتمبر/أيلول 1982، إلا أنه بعد ثلاثين عامًا من هذا التاريخ. جرى استفتاء على تعديل 26 مادة من ذاك الدستور في جوّ مكتمل الديمقراطية. وعلى الرغم من إحداث تغيير جذري إلا أنّ ذلك لم ينزع عنه صفة دستور الانقلاب.

على الرغم من ذلك، إلا أنّ تغيير هذه المواد الستة والعشرين كان إنجازًا. حيث تم إلغاء المادة 15 والتي كانت تجعل من محاكمة الانقلابيين ومعاقبتهم خطًّا أحمر. وبفضل هذا التغيير تمت محاكمة رأس الانقلاب كنعان إيفرين، ومن كان على قيد الحياة من الانقلابيين مثل تحسين شاهين كايا.

أما استفتاء 2017، فقد تمخض عنه تغيير في بنية نظام الحكم ذاته في تركيا، حيث انتقلت من النظام البرلماني إلى الرئاسي. لكن مهما كان هذا التغيير جوهريًّا وجذريًّا إلا أنه يظل في نهاية المطاف بمثابة تنقيح للنص الأصلي ذاته الذي لم يتغير. حتى ولو كان قد تغير كله إلا أن النقطة التي وصلت إليها تركيا اليوم، تتطلب دستورًا يعدّه مواطنون بلا قيود وبإرادتهم الحرة. للتخلص من نص دستوري أشبه بعَقدٍ وقع عليه المجتمع مكرَهًا لا طائعًا.

اقرأ أيضا: أردوغان: ميركل دهشت عندما أبلغتها “بأكبر نجاح لتركيا”

ولذلك نقول أن طريق الدستور الجديد المفتوح أمامنا اليوم، يعتبر في الحقيقة بمثابة مرحلة لعقد اجتماعي يتماشى مع روح الدستور وماهيته. في الوقت الذي تشكلت فيه شخصية المواطن الحر القادر على المناقشة، والذي يمتلك قدرًا كافيًّا من القوة اجتماعيًّا.

خلال حديثنا عن شخصية المواطن، أجد انه من الفائدة أن نذهب نحو بدايات تاريخ وضع الدستور في تركيا. والنقاشات التي جرت حول هذ الأمر، لا سيما الانتقادات والإسهامات التي صدرت عن الأمير سعيد حليم باشا. أحد آخر من تولى منصب الوزير الأعظيم/الصدر الأعظم في الدولة العثمانية.

كان أهم محاور ما لفت إليه وحذر منه سعيد حليم باشا حول العملية الدستور، هو أن المجتمع بعيد أو مغيب عن هذه العملية في واقع الأمر. وإن كانت شرعية الدستور مستمدة عرفًا من العقد الاجتماعي. وإن حقيقة غياب المجتمع عن هذه العملية الدستورية -حسب رأي حليم باشا- ترجع إلى أنّ المجتمع كان لا يزال بعيدًا عن فكرة الدستور بحد ذاتها. لا سيما وأنّ المطالبة بدستور لم تصدر من المجتمع بل من بعض نُخَبه.

إن ذلك يشير في الواقع إلى أنّ البعد الذي نواجهه اليوم حين الحديث عن الدستور، كان يمثل أهم قضية في تاريخنا الدستوري.

اقرأ أيضا: تركيا .. موظف يحاول قتل رئيسه في العمل مستعينا بـ”كورونا”

في النهاية تم قبول الدستور والذي يُعرف بـ القانون الأساسي، عام 1876. لكنه جاء في ظل ظروف أُسقط فيها السلطان عبد العزيز من العرش عبر انقلاب، وقُتل؛ وإن كانوا قد أذاعوا أنه انتحر من تلقاء نفسه. ومن ثمّ نصّبوا السلطان عبد الحميد الثاني خلفًا له، وطلبوا منه إعلان الدستور. وبالفعل لم تمض فترة وجيزة حتى أعلن الدستور. ولكن لم يمرّ عامان فقط حتى قام بتعليقه حتى عام 1908 مع إعلان المشروطية الثانية.

يلفت سعيد حليم باشا إلى حقيقة أنّ هذا الدستور قد تمت صياغته من قبل الوزراء وبعض المسؤولين البارزين في ذلك الوقت. حيث صاغوا الدستور فيما بينهم وبشكل سري، في أكثر أوقات الحكم المطلق صعوبة وشدة. وأن هدفهم من هذا الدستور التخفيف من وطأة استبداد الحاكم، عبر إنشاء قوة في مقابل نفوذ وسلطة الحاكم، من شأنها إحداث توازن نوعي. وكان يبدو أن الهدف هو إظهار قوة الأمة كندّ لاستبداد الحاكم أو موازية له، مما يوجب بدوره تعريفًا بماهية الدستور. ولا شك أن هذا المقترح الذي يقوم على فكرة تحقيق توازن من خلال الاعتماد على الشعب. يستمد شرعيته وأحقيته وصلاحيته بشكل ذاتي.

اقرأ أيضا: غرامة مالية على مسلسل “أنت اطرق بابي” بسبب مشهدي الاستحمام والتدليك

إلا أن سعيد حليم باشا، يرى أن المبادرة الدستورية كانت بعيدة كل البعد عن هذا الهدف السامي الذي انطلقت فكرة الدستور لأجله. وذلك لأن قضية استبداد السلطان لم تكن المشكلةَ بالنسبة للشعب، بل كانت مشكلة بالنسبة لتلك الطبقة التي وضعت الدستور فيما بينها. لم تكن هناك أي مؤشرات تفيد أنّ الأمة كان لديها هذا النوع من المطالب في تلك المرحلة. كما كان من الواضح للغاية أنّ أمة تقوم على نظام القبائل والعشائر ولا تتمتع إلا بمستوى تعليمي متدنّي. لن يكون لديها معرفة ومهارة في استخدام الحقوق أو الحريات أو الإمكانيات التي من الممكن أن يفرزها لهم هذا الدستور. وإن العجز الذي يكتنف هذه الأمة كان في الأصل هو الأمل الوحيد بالنسبة لطبقة المسؤولين التي وضعت الدستور. حيث كانت تعلم أنّ الحقوق التي سيوفرها الدستور لأمة عاجزة لن تستخدم تلك الحقوق، ستنتقل أحقيتها بالتالي لهذه الطبقة التي تّدعي أنها تمثل الشعب.

اقرأ أيضا: تحركات مشبوهة في صفوف المعارضة التركية

وفقًا لسعيد حليم باشا، فإنّ من وضعوا الدستور فيما بينهم كانوا يدركون هذا الأمر جيدًا. حتى أنهم من الأساس لم يكونوا يأملون بشيء سوى توسيع المجال والصلاحيات لوصايتهم على الشعب باسم الدستور الجديد. كان من الواضح أنهم استخدموا الأمة كأداة ضدّ السلطان. حينما نصّبوا أنفسهم لصياغة هذا الدستور فيما بنيهم. ومن خلال السلطة التي كانوا ولم يتخلوا عنها أبدًا، والأهم من ذلك هو حينما أضافوا صفة “حماة الأمة وحقوقها” لأنفسهم.

وبالتالي كان هذا الدستور في واقع الأمر بمثابة تعزيز لاستبداد طبقة معينة ومختلفة للغاية ضمن البيروقراطية العثمانية.

كان سعيد حليم باشا يحاول الإشارة إلى ملاحظات ولمسات اجتماعية قوية، تحكي خيبة الأمل في تجربة المجتمع العثماني لأول دستور. حيث تمخض عن نتائج كانت مغايرة تمامًا للأهداف التي كان يُرمى لها. وإن أهم ملاحظة هي أن الدستور لم يكن مطلب الأمة. بل نتيجة رغبة في إقامة استبداد أقوى على الأمة، من قبل أناس نصّبوا أنفسهم أوصياء عليها.

دعونا نكمل الملاحظات واللمسات الأخرى التي يجب أخذها بعين الاعتبار على طريق العملية الدستورية، في المقال القادم.

ياسين اكتاي بواسطة / ياسين اكتاي

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.