هل يحقق بوتين نبوءة الناتو؟

قبل طرح هذا السؤال، يجدر بنا بالطبع أن نطرح سؤالًا من وحي ما تتمخض عنه التطورات الأخيرة، ونسأل؛ هل يتمحور عمل الناتو في نسج نبوءات تصادق نفسها بنفسها فتتحقق بالتالي؟

كما هو معلوم فإن روسيا بدأت بشكل فعلي في تنفيذ ما كان متوقعًا منذ شهور وحتى سنوات وهو غزو أوكرانيا، وبدأت الخميس الماضي بأول خطوة على هذا الطريق من نقطة لم تكن متوقعة في الواقع؛ حينما أعلنت للعالم اعترافها بانفصال ومن ثم استقلال منطقتي دونيتسك ولوغانسك عن أوكرانيا، وبهذا القرار بات واضحًا أن الدبلوماسية لم تكن سوى مجرد خدعة بالنسبة لبوتين.

لكن على الرغم من أن الغزو لم يكن متوقعًا أن ينطلق من هذه النقطة، إلا أنه يواصل طريقه كما هو متوقع، فلم تقف القوات الروسية عند حدود دونيتسك ولوغانسك فحسب، بل بدأت باجتياح أوكرانيا من كافة الجهات، حتى وصلت على مشارف كييف. ويبدو أن سرعة التحرك هذه هي وحدها يمكن أن تعطي فكرة حول سقفه.

عقب هذه التطورات المتسارعة لم يعد بالطبع منطقيًا طرح فرضية ترى أن روسيا كانت مضطرة لهذا الإجراء من أجل حماية أمنها. حيث أن روسيا بغزوها دولة مستقلة لا تبرر ذلك فقط بمخاوفها المزعومة من أسلحة الناتو المنتشرة في ذلك البلد أو بلد أخرى من دول أوروبا الشرقية. لأن روسيا ذاتها لا تتردد في التصريح بأن أوكرانيا ما هي إلا ملك وحق خالص لها، وأن منحها الاستقلال كان أمرًا خطأ.

وهو ما كشف عنه بوتين صراحة خلال خطابه عشية إعلان انفصال منطقتي دونيتسك ولوغانسك، أما قراره بإعلان غزو أوكرانيا وأطروحات التاريخ والثقافة التي اعتمد عليها في ذلك؛ فهو يشير إلى أن العدوان الروسي المحتمل ليس مجرد وهم فقط.

في المقابل، لم يتخل حلف الناتو عن النظر إلى روسيا كتهديد محتمل، منذ إنشائه كحلف مضاد لحلف وارسو، ورغم انتهاء الحرب الباردة وانهيار حلف وارسو بقيادة الاتحاد السوفيتي، ظل الناتو يتعامل مع روسيا الاتحادية كتهديد محتمل.

وانطلاقًا من التعامل معها بهذا الشكل، توسع الناتو لدرجة تطويق روسيا تقريبًا عبر ضم كلّ من دول رومانيا وبولندا ولاتفيا وليتوانيا وإستونيا إلى الحلف. كان هذا التوسع في حد ذاته لا يفارق ذهن روسيا من حيث كونه تهديدًا محتملًا كذلك في مقبل الأيام، وإن لم يكن اليوم فغدًا ستحاول روسيا العودة لدورها التاريخي وعندها ستجد أمامها هذا التهديد يجثم فوق أنفاسها. حتى ولو لم يكن هذا التفكير في عقل روسيا، إلا أن توسع الناتو وتركيزه على هذا الجانب كان كفيلًا لإثارة روسيا بالعودة إلى دورها التاريخي.

بمعنى آخر، كما أن حلف الناتو يتعامل مع روسيا كتهديد ويتحرك في ضوء ذلك، فإنها في المقابل تتعامل مع إجراءاته المتخذة كتهديد كذلك، لدرجة أنها قالت مرارًا بأن هذه التهديدات التي تحيط بها ستصل إلى نقطة لا يمكن تحملها، لا سيما فيما لو أصبحت أوكرانيا أيضًا عضوًا في الناتو.

أما الولايات المتحدة فإن تعاملها مع التهديد الروسي المحتمل لطالما كان خاضعًا لتأثير مقاربتها من مشروع “نورد ستريم-2” الذي أنشئ بهدف نقل الغاز الروسي إلى أوروبا من خلال ألمانيا. فهي تعتقد أن إتمام هذا المشروع سيعزز موقع روسيا في أوروبا بشكل أكبر وربما يجعل من المستحيل على الدول الأوروبية أن تقارع روسيا أو تدخل معها في صراع يومًا ما حينما يلزم الأمر.

وفي هذا السياق نجد أن إحدى النقاط التي شجعت بوتين في الحقيقة على المضي قدمًا بخطته الجنونية نحو أوكرانيا، هو ثقته بانعدام التأثير في الموقف الأوروبي، حيث يعلم أن أيدي الأوروبيين وخاصة الألمان مربّطة لا يقدرون على فعل شيء. وهذا هو أبرز وأهم الأسباب التي جعلت بوتين واثقًا من نفسه لهذا الحد، فهو يعلم أنه على الرغم من كل التشجيع الغربي لأوكرانيا منذ البداية ودفعها نحو الحرب، لن يتجاوز بعد الحرب مجرد الإدانة والتنديد فقط.

وبالطبع هناك أسباب أخرى في الواقع أيضًا، تتمثل في ضعف حلف الناتو، وبنيته معدومة الثقة، والتناقض بين أقواله وأفعاله، والخلافات بين أعضائه.

لا يمكن لحلف الناتو أن يذهب إلى أبعد من نسجه للنبوءات عبر سياساته وخطاباته. لكن الأمر لا يقف عند هذا الحد فحسب، حيث أن هذه النبوءات تتحول إلى كوارث مستقبلية فيما بعد، فهو ينسج النبوءة على أساس أن تتحقق، وحينما تتحق يبب بالبكاء على ضحاياها. بمعنى آخر، يقتل الناتو القتيلَ ثم يمشي في جنازته.

يمكن أن نفهم أنّ بوتين قرأ بشكل جيد ملامح الضعف في الناتو وأوروبا. لكن هذا لا يعني بأي حال أنه قد قرأ أو يقرأ عواقب هذه السياسة بشكل جيد. ففي نهاية المطاف لا شك أن هذا التحرك الذي بدأه في أوكرانيا يمهد الطريق لزعزعة استقرار طويلة الأمد في العالم.

وفي هذا الوضع الجديد، لم يعد هناك احتمال أن تكون روسيا سيدة العالم الذي تريد إنشاءه، بعد أن كشفت للعالم كله عن عدم مصداقيتها. وهي وإن نجحت في تكبيل يدي الناتو وأوروبا حتى اللحظة من خلال غزو أوكرانيا، فإن المكاسب التي قد تحققها من ذلك لا تعني أنها ستقضي على كل شيء بالكامل.

ونتيجة لذلك، كما أن أوروبا محتاجة لروسيا بسبب غازها، فإن الأخيرة أيضًا محتاجة في نهاية المطاف لبيع الغاز الطبيعي الذي تملكه للأسواق العالمية فهو مصدر الدخل الرئيسي بالنسبة لها. وبما أن بائع الغاز يظهر استغلاله وغطرسته مع زبائنه، فإن هؤلاء الزبائن سيضطرون في المؤدى للبحث عن بدائل أخرى وبائعين آخرين.

إضافة لذلك فإن هذه المغامرة والمخاطرة تجعل روسيا غير آمنة، ومعزولة في العالم، مما سيعرضها لإغلاق كبير ربما يكون الأقوى بعد التجربة السوفيتية. وكما أن نهاية التجربة السوفيتية كانت مخيبة الآمال بالنسبة لروسيا، فلا توجد دلائل على أن هذه المغامرة الجديدة ستقود روسيا إلى مكان أفضل.

بالطبع لا شك أن روسيا فكرت في هذا أيضًا، وربما كخطوة استباقية بدأت تبحث هي أيضًا عن بدائل لزبائن غازها الطبيعي، وفي الواقع وقعت صفقة كبيرة مع الصين في وقت سابق من هذا الشهر، لبيع الغاز الطبيعي. لكن مع ذلك، لا يمكن لهذه الخطوات أن تعوض روسيا ما خسرته بسبب غزوها أوكرانيا.

أخيرًا، كشفت روسيا عن أنيابها، ولقد أظهر استعرض القوة بهذا الشكل بؤس خصومها وتخاذلهم، لكن استعراض هذه القوة أو ادعاءها يلحق ضررًا أكبر بروسيا نفسها. علينا رؤية ذلك.

ياسين اكتايبواسطة / ياسين اكتاي

تعليق 1
  1. أحمد البدراني يقول

    الغزو الروسي لأوكرانيا كشف عن ضعف الناتو وتخاذل أوروبا ويشجع الصين على أعمال عدائية ضد تايوان وبمرور الوقت سيتشكل حلف الشرق المكون من روسيا والصين+الدول التابعة لهما كميلاد جديد لحلف وارسو القديم وسيشهد العالم حرب باردة جديدة متصاعدة تنتهي بسيناريو الحرب العالمية الثالثة بين الشرق والغرب في حالة عدم التوازن الجيواستراتيجي وتجاهل المطالب الروسية والصينية

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.