السلطان سليم الأول وخدمة الحرمين

يعد لقب “خادم الحرمين الشريفين” لقبًا قديمًا سابقا على وجود حكام الدولة السعودية الذين لقبوا بهذا اللقب، فأول من لقب به، هو السلطان صلاح الدين الأيوبي بطل معركة حطين ومحرر القدس، حيث ورد ذكره بهذا اللقب في كتاب “النوادر السلطانية والمحاسن اليوسفية” لابن شداد.

وقد حمل هذا اللقب من حكام الدولة العثمانية، السلطان سليم الأول، والذي لقب به بعد ضمه بلاد مصر والشام في عامي 1516، 1517م، فهل كانت سيرته مع تلك البقاع المقدسة مؤكدة استحقاقه هذا اللقب؟

يقول المؤرخ المصري محمد حرب في كتابه “العثمانيون في التاريخ والحضارة”:

“ودخل سليم القاهرة، ونودي به سلطانا خليفة للمسلمين خادما للحرمين الشريفين بعد أن تسلم مفاتيح مكة والمدينة، وكان سليم كريما مع ابن أمير مكة الذي قابله في القاهرة، كريمًا مع أهل الحجاز، فقد أرسله معززا مكرما إلى مكة، وأرسل معه الخيرات الكثيرة لأهل المدينتين المقدستين مكة والمدينة”.

اهتم السلطان سليم الأول اهتماما كبيرا بالحرمين الشريفين، وهناك وثيقة هامة تؤكد مدى عناية سليم الأول بشؤون العالم الإسلامي عامة، وبشؤون الحرمين الشريفين وأهلهما على وجه الخصوص، موجودة في أرشيف رئاسة الوزراء بإسطنبول، دفتر المهمة رقم 5، ص70، رقم حكم السلطان 161.

هذه الوثيقة، أوردها الدكتور عمر سالم بابكور، في رسالة ماجستير بعنوان “حزام الأمن العثماني حول الحرمين الشريفين في القرن العاشر الهجري”، قدمها في منتصف ثمانينيات القرن الماضي لجامعة أم القرى في المملكة العربية السعودية، وجاء في نصها:

“إن خلافة الأمة الإسلامية اليوم في أيدينا، وإن جميع مسؤولياتها ملقاة على رقابنا، وهذه نعمة من الله سبحانه وتعالى لنا، وأن جميع المسلمين الذين يعيشون في أرض الله تحت رايتنا نحن مسؤولون عن جميع أحوالهم، نهتم بهم إن جاءهم أي ضرر، وواجبنا أن ندفع عنهم ما يصيبهم من العدوان على كل حال، وخاصة نهتم بدفع الضرر عن الذين يعيشون في الأماكن المقدسة، ونحافظ على جميع الرعاية المسلمة، وعلى جميع التجار”.

كان سليم الأول محبًا لأهل الحرمين الشريفين باذلا لهم دلائل الإكرام حتى قبل أن يتولى الحكم، فقد كان يرسل من أمواله للتصدق على فقراء مكة بصفة خاصة، وأعطيات خاصة بالعلماء والصالحين، داوم عليها بعد اعتلائه العرش.

وما إن تولى الحكم، حتى سأل عن الحبَّ الذي يصل إلى أهل مكة مما كان يرسله والده بايزيد، فقيل له إنه ثلاثة آلاف أردبّ، فأمر هو أيضا أن يرسل مثلها لأهل مكة من النفقة الخاصة، كما أمر بخمسمائة أردبّ تصل إلى جدّة للفقراء المنقطعين الذين عجزوا عن التوجه إلى مكة لأداء الحج، وداوم على إرسال الصرّة إلى مكة، وكثر الداعين له من أهل الحرمين الشريفين، وسافر إليه كبراؤها وعلماؤها منهم الخطيب محيي الدين العراقي، فاحتفى به وأجزل له العطاء.

وذكر المؤرخ عز الدين عبد العزيز بن فهد الهاشمي في كتابه “بلوغ القرى في ذيل إتحاف الورى بأخبار أم القرى”، أن السلطان سليم رفع مقدار الصرة المرسلة إلى الحرمين حتى بلغت عام 1515م إلى ستين ألف دينار ذهبي.

وعندما دخل السلطان سليم مصر عام 1517م، بعد انتصاره على المماليك، وجد جماعة فيها من أهل الحجاز فأكرمهم، وقابل خلال هذه الفترة تاجرا مكيا اسمه “قاسم الشرواني” قام بخدمته فوجد فيه السلطان الأمانة، فقام بتوليته على جدّة أميرًا.

بعد أن ولّى السلطان سليم خاير بك نائبا عن السلطنة في مصر، أمره أنه يجهز سفنا محملة بالحبوب إلى الحرمين، فأرسل سبعة آلاف أردب وزعت على أهل المدينة ومكة، وسارت من السويس إلى جدة بحرًا، ووصل الأمر منه إلى الأمير مصلح الدين بتوزيعها، فجلس في الحرم المكي وطلب من قاضي القضاة صلاح الدين بن ظهيرة وقضاة المذاهب، ونائب جدة الأمير قاسم الشرواني وبقية الفقهاء، وقرأ عليه المرسوم السلطاني لتوزيع الحبوب على المستحقين.

وأرسل سليم كسوة الكعبة مع الأمير مصلح الدين بك، ومعها كسوة مقام الخليل إبراهيم وصنع للمحمل الشريف كسوة.

وفي دراسة أعدتها لمياء أحمد عبد الله شافعي، أستاذ التاريخ الإسلامي بجامعة أم القرى نشرتها مجلة الجامعة في عددها “54”، بعنوان “الصرة العثمانية الموجهة إلى مكة”، ذكرت أن السلطان قرر عدة قرارات في مصر بعد دخولها تتعلق بالحرمين، ومنها على سبيل المثال:

أمر بزيادة الاعتمادات المالية المخصصة للحجاز، وجعلها من واجبات الباشا العثماني بمصر على أن يحاسب إذا قصر في إرسالها، كما اشترى قرى وضياعًا في مصر والشام وأوقف أموالها وإيراداتها من كامل محاصيلها توزع على أهالي الحرمين.

وذكر قطب الدين النهروالي في كتابه “الإعلام بأعلام بيت الله الحرام”، أن السلطان سليم كان يرسل ألف دينار ذهبًا توزع أيام موسم الحج على فقراء مكة، يستعينون بها على مصروف الحج أيام منى وعرفة، وألف دينار ذهبا لفقراء المدينة في أيام الحج، يستعينون بها على الوصول من المدينة المنورة إلى مكة، وكان يخص بعض العلماء والصلحاء والمشايخ بكسوة من الأصواف الخاصة وبعض غير ذلك.

ويذكر علي بن عبد القادر الطبري، في كتابه “الأرج المسكي في التاريخ المكي وتراجم الملوك والخلفاء”، أن السلطان سليم كان كثير الإحسان لأهل مكة، وأنه اختص جده الإمام شرف الدين يحيى الطبري إمام المقام، بأموال وهدايا من صوف وغيره.

ومن هنا ندرك إيلاء السلطان سليم الأول الحرمين الشريفين عناية خاصة، وهو الشأن الذي اهتم به سائر حكام الدولة العثمانية، لما لهاتين البقعتين المقدستين من مكانة عظيمة في قلوب المسلمين.

 

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.