مكان تركيا في النظام الإقليمي الآخذ بالتشكل

مع مسار التهدئة والتقارب بين مختلف دول المنطقة، وقبيل زيارة الرئيس الأميركي المرتقبة لها، ثمة إرادة واضحة لتشكيل نظام إقليمي جديد يقلب المعادلات القائمة، عنوانه الأبرز التكتل والتعاون في مواجهة إيران.

نهاية حقبة

تشهد المنطقة منذ نهاية 2020 حراكا بين مختلف دولها؛ عنوانه “التهدئة والتواصل”، بعد عقد من الاستقطاب والمواجهة المباشرة وغير المباشرة وقفت فيه هذه الدول على طرفي نقيض.

وثمة أسباب عديدة تقف خلف هذا التوجه الذي انخرطت فيه عدة دول، لكن أهمها اثنان؛ الأول تراجع حضور الملفات الخلافية بين الجانبين مثل الثورات العربية والانقلاب في مصر والأزمة الخليجية وحتى ملف مقتل الإعلامي السعودي جمال خاشقجي، والثاني رغبة الولايات المتحدة في تخفيف التوتر والخلافات بين حلفائها في المنطقة، بحيث يمكنها التخفف من بعض العبء وتحميله لهم من جهة، وإمكانية توجيههم في مسار مشترك مستقبلا من جهة أخرى.

وهكذا، شهدنا على مدى السنتين الفائتتين عدة لقاءات وحوارات وزيارات بين تركيا من جهة والإمارات والبحرين والسعودية ومصر و”إسرائيل” من جهة أخرى، وكذلك بين قطر ومصر، وبين الدول الخليجية. يضاف لها -من زاوية ثانية- لقاءات واجتماعات بين إيران من جهة والسعودية والإمارات من جهة ثانية، فضلا عن أخبار وتقارير تتحدث بشكل دوري ومتواتر عن لقاءات تجمع بين “إسرائيل” وعدد من الدول العربية.

وعليه، ثمة مساران مختلفان في المنطقة مؤخرا؛ وإن كان هناك ارتباط بينهما من زاوية ما. الأول مسار بين الدول التي شكلت أركان الاستقطاب في المنطقة بالسنوات الفائتة وعنوانه الرئيس إغلاق صفحة الربيع العربي وفتح صفحة جديدة في العلاقات بعيدة عن التخندق والاستهداف وأقرب للتهدئة والتواصل والحوار، ومستقبلا التعاون، لا سيما في المجال الاقتصادي.

والثاني مسار بين الدول التي شكلت أقطاب “محور الممانعة” قبل الثورات العربية، مضافة لها دولة الاحتلال وبتنسيق من الولايات المتحدة الأميركية، وعنوان هذا المسار “تنسيق الجهود في مواجهة إيران”. ولعله من اللافت في هذا الإطار -وقبيل زيارة بايدن للمنطقة- الخبر الذي أوردته “وول ستريت جورنال” (Wall Street Journal) في 26 يونيو/حزيران الجاري عن اجتماع سري كان عقد في مارس/آذار الفائت في شرم الشيخ، وجمع مسؤولين عسكريين من كل من “إسرائيل” والسعودية وقطر والأردن ومصر والإمارات والبحرين “للبحث في كيفية التنسيق في مواجهة قدرات إيران المتنامية بمجالات الصواريخ والطائرات المسيّرة بدون طيار”، اعتمادا على تصريحات مسؤولين أميركيين ومن المنطقة.

كما تجدر الإشارة إلى تزايد التصريحات التي تحيل مؤخرا على فكرة تشكيل محور أو تحالف أو “ناتو إقليمي”، وآخرها تصريحات العاهل الأردني في 24 يوليو/تموز الجاري لشبكة “سي إن بي سي” (CNBC) حول دعمه لتشكيل “تحالف عسكري في الشرق الأوسط على غرار حلف شمال الأطلسي، على أن يضم الدول التي لديها نفس التفكير”.

يضاف لذلك تصريحات منسوبة لنائب وزير الخارجية الأميركي لشؤون الشرق الأوسط “باربرا ليف”، خلال جلسة استماع برلمانية، عن أن الولايات المتحدة “تعمل في الكواليس مع دولتين” إضافيتين لتطبيع العلاقات مع “إسرائيل” وأن زيارة بايدن المرتقبة للمنطقة قد تشهد “أمورا مثيرة للاهتمام” في هذا الإطار.

وبناء على ما سبق، يمكن القول إن المسار الثاني يسعى لتأسيس نظام إقليمي جديد عنوانه الرئيسي مواجهة إيران ويشمل دولة الاحتلال مع دول عربية، بينما هدف المسار الأول غلق صفحة الاستقطاب السابقة وبما يمكن أن يكون أحد متطلبات المسار الأول. ولدى الجمع بين المسارَين المتزامنين، يمكن القول إن النظام الإقليمي الذي ساد خلال العقد الفائت وصل إلى نهاياته، ويترك مكانه لنظام إقليمي آخر يُعمل على تشكيله. فأين تركيا من ذلك؟

أين تركيا؟

بداية، تجدر الإشارة إلى حضور تركيا بشكل مركزي في المسار الأول وغيابها الملحوظ عن المسار الثاني. فقد كانت تركيا في قلب الحراك الإقليمي المعلن، وجمعتها لقاءات على مستوى الرئاسة مع كل من الإمارات و”إسرائيل” والسعودية، بينما لم يرد ذكرها في معظم -إن لم يكن كل- اللقاءات السرية المندرجة تحت بند التحالف الإقليمي المزمع تشكيله.

كما أن منطلقات أنقرة في مسار سياستها الخارجية الحالية تبدو في معظمها داخلية ومتعلقة بتحسين الأوضاع الاقتصادية قبيل الانتخابات العام المقبل، ومن ذلك جذب الاستثمارات وتنمية التجارة البينية وتخفيف ضغوط السياسة الخارجية وحدة الاستقطاب والاستهداف، وهي دوافع ليس من ضمنها مواجهة إيران.

ويضاف لذلك أن لتركيا أولوياتها الخاصة بها، فالتنافس مع اليونان في شرق المتوسط وبحر إيجة وملف تسليح الأخيرة للجزر؛ يشكلان أولوية لدى أنقرة، يتبعها ملفات النزاع في كل من سوريا والعراق وليبيا. ولئن شملت بعض هذه الملفات منافسة مع طهران، إلا أن أنقرة لا تقاربها بنفس نظرة دول الخليج العربي، فضلا عن دولة الاحتلال.

كذلك فإن مسار تقارب أنقرة مع الأطراف المذكورة لم يشمل -أقله حتى اللحظة- تغييرا جذريا في الرؤى والمواقف من مختلف قضايا المنطقة، لا منها ولا من الأطراف الأخرى، إذ كل ما رشح عن الزيارات واللقاءات سالفة الذكر تطرّق للحوار والتعاون لا سيما في المجال الاقتصادي والتجاري بدون أي إشارة إلى تبدُّل منظومة التحالفات والاصطفافات في المنطقة.

ولا يعني كل ذلك أن السؤال عن مكان تركيا في النظام الإقليمي المرغوب في تشكله افتراضي أو تنقصه الوجاهة، إذ ثمة تطورات وضعته على طاولة النقاش. فمسار التقارب جمع بين تركيا ومعظم الدول التي يفترض أن تشكل أعمدة المحور المفترض، ومن جهة ثانية فقد جاء التقارب مع “إسرائيل” في ظل مواجهة ساخنة بين الأخيرة وإيران شملت اغتيال شخصيات قيادية فيها ومحاولات رد إيرانية في عدة دول في مقدمتها تركيا.

ومما زاد من حضور السؤال (عن مكان تركيا في النظام الإقليمي) مؤخرا؛ الإعلانُ عن إحباط عمليات إيرانية لاغتيال شخصيات “إسرائيلية” على الأراضي التركية، شهد بعضها تعاونا تركيا مع الموساد. لكن السردية التركية الرسمية تورد ذلك ضمن “رفضها تحويل أراضيها إلى مسرح مواجهة” بين الجانبين، بما يؤثر سلبا على الأمن والاقتصاد والسياحة في البلاد فضلا عن سمعة تركيا كبلد آمن.

ومما يدعم فكرة أن تركيا ليست منحازة لأي من الطرفين وإنما تسعى لتجنيب أراضيها هذه المواجهة؛ أنّ الأشهر السابقة التي شهدت توقيف أنقرة لشبكات تجسس إيرانية شهدت كذلك توقيف شبكة عملاء للموساد، كما أوردت وسائل إعلام عبرية أن مولود جاويش أوغلو (وزير الخارجية التركي) حذر “الإسرائيليين” من الاستمرار في ادعاء استهداف إيران لهم على الأراضي التركية ودعواتهم لمغادرة الأراضي التركية.

ولعله من المفيد الإشارة إلى أنه رغم التنافس الشديد في الإقليم بين أنقرة وطهران إلا أنهما تجنبتا الدخول في مواجهة مباشرة وأبدتا إرادة سياسية في تجنب الصدام وإدارة الخلاف بما يضمن مصالح البلدين، ومن نماذج ذلك إطار أستانا الثلاثي الذي يضمهما إضافة لروسيا.

أخيرا، من المفيد التذكير بأن تركيا لم تكن ركنا رئيسا من المحورين الرئيسين اللذين سادا في المنطقة قبل الربيع العربي، أي محورَي “الاعتدال” و”الممانعة”، بل كانت على علاقة جيدة مع كليهما. والمتوقع أن تتبع أنقرة في المستقبل المنظور سياسة مشابهة لذلك في حال زاد التوتر بين إيران والمحور الإقليمي الآخذ بالتشكل.

في الخلاصة، فإن المعطيات تقول إن أنقرة ستسعى لنسج علاقات طبيعية مع مختلف الفرقاء في المنطقة، لتخفيف الضغوط عنها وإنعاش الاقتصاد، وقد قدمت استحقاقات التقارب مع هذه الدول ضمن ملفات ثنائية مثل المعارضة المصرية وملف خاشقجي. ولذلك فليس من المتوقع أن تنخرط في حالة استقطاب جديدة تُوقِعها فيما تسعى للخلاص منه، فلا ذلك في مصلحتها ولا ثمة مؤشرات على رغبتها في ذلك أو استعدادها لأمر من هذا القبيل، فضلا عن أن مسار التقارب مع بعض الدول في المنطقة -ولا سيما “إسرائيل” وبعض دول الخليج العربي- لم يُزِل ولا يُتوقع أن يزيل قريبا ضعف الثقة والفجوة بين الجانبين.

إن المرجّح أن تختط أنقرة لنفسها مسارا مستقلا ومتمايزا بين الجانبين يركز على أولويات أمنها القومي ومصلحة اقتصادها في الداخل، وهو أمر يتناقض في المبدأ مع فكرة الانخراط في النظام الإقليمي الآخذ في التشكل. وأكثر من ذلك، فإن مصلحة أنقرة ألا تحصل مواجهة من هذا القبيل، لأنها ستكون -مع الخليج العربي- أحد أهم ساحاتها وفي طليعة المتضررين منها، بما يعني أن مصلحتها أن تبذل جهدها لمنع سيناريو من هذا القبيل بما تملكه من إمكانات وعلاقات إن استطاعت.

بواسطة / سعيد الحاج

 

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.