تركيا بين زلزالين

زلزال مرمرة

لئن عُرفت تركيا بأنها بلد الانقلابات العسكرية فهي كذلك بلد الزلازل، إذ تقع على حزام نشط وعرفت الكثير منها في تاريخها، بل شهدت زلزالاً كبيراً على الأقل كل 30 عاماً وفق بعض التقديرات. وقد كان لبعض الزلازل الكبيرة تحديداً تبعات سياسية، يأتي في مقدمتها زلزال عام 1999 المعروف بزلزال مرمرة أو إزميت أو غولجوك.

في 17 من أغسطس/آب 1999 شهدت تركيا زلزالاً قدرت قوته بـ 7.6 درجات على مقياس ريختر، كان مركزه في منطقة إزميت القريبة من إسطنبول وعلى عمق 17 كيلومترا من سطح الأرض، وتسبب بعدد كبير من الضحايا فضلاً عن الدمار الهائل.

أشارت التقديرات في حينها لوفاة 17 ألفا و480 شخصاً وإصابة 23 ألفا و781 آخرين فضلاً عن إعاقات دائمة لعدد 505 أشخاص، وتضرر أكثر من 285 ألف منزل وزهاء 43 ألف مكان عمل. لكن تقريراً لاحقاً للجنة برلمانية أثبت وفاة أكثر من 18 ألفاً وإصابة ما يقرب من 50 ألفاً. بينما تحدثت بعض المصادر غير الرسمية عن أضعاف هذه الأرقام، موصلة عدد المتأثرين بالزلزال بمختلف الأشكال المباشرة وغير المباشرة إلى زهاء 16 مليون إنسان.

كان زلزال مرمرة كبيراً ومدمراً، وازدادت أعداد الضحايا والمصابين بشكل أساسي بسبب طبيعة الأبنية الهشة غير المقاومة للزلازل. لكن الأهم بخصوصه كان غياب الدولة أولاً، ثم عجزها ثانياً. فقد مرة ساعات طويلة، وأحياناً أيام، قبل أن يصل المسؤولون المعنيون للمناطق المنكوبة، ثم أظهرت أعمال الإنقاذ عدم استعداد البلاد لكارثة من هذا النوع، لا على صعيد الأبنية ولا على صعيد الإنقاذ كتخطيط وإعداد ومتطلبات وتنفيذ.

ولذلك فقد كان زلزال 1999 محطة غضب شعبي كبير على الحكومة والمنظومة السياسية والحزبية برمتها، وأضيف للانسداد السياسي والأزمة الاقتصادية، منتجاً كفراً بالنخبة السياسية القائمة والبحث عن بديل، وقد كان كل ذلك من بين أسباب فوز الحزب الوليد حينها (العدالة والتنمية) بثقة الشارع التركي في أول انتخابات يخوضها عام 2002.

واليوم، وبعد أكثر من عقدين عليه، يذكّر زلزال كهرمان مرعش بزلزال عام 1999، وتُعقد بينهما المقارنات العفوية و/أو المقصودة، فكيف كان الأمر مع الزلزال الجديد؟

زلزال كهرمان مرعش

في السادس من الشهر الجاري، ضرب زلزال شديد جنوب تركيا، وكان مركزه في محافظة كهرمان مرعش وبدرجة 7.7 على مقياس ريختر وبعمق 7 كيلومترات عن سطح الأرض. وتأثرت بالزلزال 10 محافظات، وقد أحدث كذلك دماراً ملحوظاً في سوريا، وشعر به الناس في كل من العراق ولبنان والأردن وحتى مصر.

أكثر من ذلك، فقد شهدت نفس المنطقة زلزالاً ثانياً بقوة 7.5 درجات بعد ذلك بساعات قليلة. أي أن الزلزال الحالي أقوى من زلزال 1999 وأكثر تدميراً وأوسع انتشاراً، مما يعني توقع خسائر فادحة من جرّائه. ولعل هذا المعنى كان حاضراً لدى السلطات التركية منذ الساعات الأولى للزلزال، ولذلك فقد أصدرت إنذاراً من المستوى الرابع والذي يعني عدم قدرتها على أعمال الإنقاذ بمفردها وحاجتها لدعم دولي عاجل، فضلاً عن إعلان الحداد العام في البلاد لمدة أسبوع منذ اليوم الأول.

وفي المقارنة المباشرة بين الزلزالين، وبغض النظر عن التفاصيل الفنية لهما، نبدو أمام مشهدين مختلفين زمنياً. الأول، السريع أي بعد الزلزال مباشرة، قدمت فيه الحكومة أداء مختلفاً تماماً عن زلزال مرمرة. فالوزراء المعنيون كانوا في منطقة الزلزال في الساعات الأولى يتقدمهم فؤاد أقطاي نائب الرئيس الذي قاد عمليات الإنقاذ بنفسه.

وقد عملت المؤسسات في مسارين متزامنين ومتكاملين. حيث قادت هيئة مكافحة الكوارث والطوارئ (AFAD) عمليات الإغاثة بما في ذلك الإخلاء والإيواء والإنقاذ والتوجيه وما إلى ذلك، بينما اهتمت وزارة الصحة بالأمور الطبية من إسعاف وعلاج ومتابعات صحية فضلاً عن التبرع بالدم وغيرها من المتطلبات. وقد عملت الوزارات والمؤسسات الأخرى بالتنسيق معهما وتحت إمرتهما.

في مؤتمراته الصحافية المتكررة، كان أقطاي حريصاً على بث الأمل والثقة، رغم فداحة الحدث، في نفوس المواطنين، إذ كرر مراراً جملة “الأمور تحت السيطرة” ناقلاً معلومات كثيرة حول عمليات الإنقاذ وأعداد الوفيات والمصابين، وأعداد المباني المتضررة، وأعمال الإغاثة وتوفير المأوى والطعام والوقود، والمساعدات الدولية التي طلبت ووصل بعضها، وحتى أوضاع المطارات والموانئ والسدود.

وبهذه الطريقة، بقيت الدولة/الحكومة المصدر الرئيس وشبه الوحيد للمعلومة، واستطاعت ضبط المشهد الإعلامي، وفندت بعض الأخبار المغلوطة، وقدمت رسالة واضحة بأنها لم تفقد زمام الأمور في ظل الأوضاع الصعبة. وفي هذا المشهد معنيان مهمان: بث الأمل وحسن التواصل مع الناس، وكلاهما مهم في آفة مثل هذه.

وفي التبعات السياسية للزلزال، غابت المناكفات والتراشقات بين مختلف الأحزاب في الساعات الأولى للزلزال، واجتمع الكل على معاني التضامن والتكافل ومحاولة المساعدة، ولعل ذلك من محاسن السياسة التركية التي تقدم البعد الإنساني على السياسي في الشدائد. لكن ذلك لا يعني أن الأمر سيسير كذلك حتى النهاية بالضرورة، إذ هناك مشهد آخر متوقع مع مرور الوقت.

فمن المرجح أن تلجأ مختلف الأطراف لتسييس وقائع الزلزال وارتداداته. فمع مرور الأيام واتضاح المشهد أكثر فأكثر، ولا سيما فيما يتعلق بالخسائر البشرية على وجه التحديد، سيكون حجم الكارثة أوقع على الجميع، بشرياً وعمرانياً واقتصادياً واجتماعياً وبالتأكيد سياسياً. وفي سياق اقتراب موعد الانتخابات المصيرية يبدو هذا التسييس حتمياً.

وهنا، ستعمد الحكومة لتقديم صورة السيطرة، والعمل الجاد المنسق منذ اللحظات الأولى، بما في ذلك طلب الدعم الدولي حيث إن دولة في العالم لا تستطيع مواجهة آفة من هذا النوع وتلك الدرجة بمفردها، وستتسلح بخبرة مؤسساتها في هذا النوع من الكوارث الطبيعية. وقبل ذلك كله، ستقول الحكومة إن إجراءاتها الاحترازية، وفي مقدمتها قوانين الإعمار وشروط الأبنية ما بعد عام 2000، كان لها دور كبير في تقليل حجم الخسائر من مختلف الأنواع ولا سيما في الأرواح، وأنه لولا مشروع التطوير المدني مثلاً لكانت الحصيلة أفدح بكثير.

في المقابل، ستتكئ المعارضة على العدد الكبير من المتضررين -وفاةً وإصابات- وحجم الدمار والأبنية المتضررة، لتقول إن تقصير الحكومة ساهم في زيادة الفاتورة، وإنها لو كانت قامت بمسؤولياتها كاملة لكانت الخسائر أقل مما حصل. وهنا، ستركز المعارضة على عدم اكتمال إجراءات الوقاية من الزلازل من جهة، وتأخر وصول المساعدات وفرق الإنقاذ لكافة المناطق المتضررة من الزلازل (وهو أمر حيوي فيما يتعلق بأعداد الضحايا) من جهة ثانية.

في المحصلة، سيكون لزلزال كهرمان مرعش على الأغلب ما بعده على شكل ارتدادات سياسية لا تقل أهمية وخطورة عن الهزات الارتدادية. وسيكون أداء الحكومة من جهة وادعاءات المعارضة من جهة أخرى في حالة تنافس محموم لإقناع الشعب التركي بوجاهة هذا الطرح أو ذاك. ومع الوقت سيفرض الزلزال الحالي نفسه كأحد الملفات المهمة في سياق الانتخابات المقبلة -إلى جانب الاقتصاد والأجانب وغيرهما- بالنسبة للتحالفَيْن الحاكم والمعارض وكذلك الأحزاب الأخرى والشارع على حد سواء، وفي مخيال الجميع زلزال عام 1999 من حيث النتائج والتبعات وتحديداً تقييم أداء الحكومة من قبل المواطنين/الناخبين.

بواسطة / سعيد الحاج

 

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.