الشعوب الديمقراطي.. بيضة القبان في الانتخابات التركية

يتنافس في الانتخابات الرئاسية والبرلمانية المقبلة في تركيا تحالفان رئيسان كبيران وبعض التحالفات الأخرى الأقل وزناً وتأثيراً. ولكن يبقى خارج إطار التحالفات بعض الأحزاب والشخصيات التي يمكن أن تملك تأثيراً مباشراً على نتائج الانتخابات، وفي مقدمة هؤلاء حزب الشعوب الديمقراطي.

الشعوب الديمقراطي

ينظر لحزب الشعوب الديمقراطي في تركيا على نطاق واسع على أنه الواجهة السياسية لحزب العمال الكردستاني، الانفصالي المصنف كمنظمة إرهابية، أو على أقل تقدير على أنه له علاقة وثيقة به. والحزب هو الكيان السياسي الأحدث للحركة الكردية اليسارية المرتبطة عادة بالكردستاني، ومما يعزز هذا الانطباع عنه الكثير من التصريحات والمواقف الداعمة أو المؤيدة للكردستاني و/أو زعيمه المعتقل في تركيا عبد الله أوجلان، فضلاً عن اتهام عدد من البلديات التي يرأسها الحزب بدعم الإرهاب وتجيير إمكانات البلديات لهذا الغرض.

وعلى عكس الأحزاب السابقة عليه، قدم الشعوب الديمقراطي، المؤسس عام 2012 باندماج عدة أحزاب يسارية و”كردية”، نفسه في انتخابات يونيو/حزيران 2015 على أنه “حزب لكل تركيا” متخلياً عن السياسة القومية (الكردية) الحصرية. لكنه عاد في الممارسة السياسية لاحقاً لشيء من هذا القبيل، لا سيما بعد انهيار عملية التسوية بين الدولة التركية والعمال الكردستاني والتي كان هو كذلك جزءاً منها.

حصل الحزب في آخر انتخابات برلمانية على نسبة 11.7% من الأصوات ليصبح ثالث كتلة في البرلمان، وتشير استطلاعات الرأي إلى أنه لن يكون بعيداً جداً عن هذه النسبة في الانتخابات المقبلة. وفي ظل حالة الاستقطاب الكبيرة في البلاد، وتقارب نتائج التحالفَيْن الرئيسين وعدم قدرة أي منهما حتى اللحظة على تخطي نسبة 50% وفق معظم استطلاعات الرأي، يرى الشعوب الديمقراطي نفسه كبيضة القبان التي يمكن أن ترجح كفة الانتخابات المقبلة.

عام 2022، رفعت قضية أمام المحكمة الدستورية لحظر الحزب بدعوى دعمه للإرهاب وعلاقته بالكردستاني، ولم يصدر الحكم فيها بعد. في أغسطس/آب الفائت، أسس الشعوب الديمقراطي “تحالف العمل والحرية” مع عدد من الأحزاب اليسارية الأقل حضوراً على الساحة السياسية، وأعلن في يناير/كانون الثاني الفائت عن عزمه تقديم مرشح خاص به في الانتخابات الرئاسية المقبلة، فيما بدا رداً على القضية المرفوعة ضده. وقد ذكرنا في مقال سابق هنا أن هذا الإعلان بمثابة رسالة سياسية تفيد تأكيد الحضور والشرعية من جهة والضغط على تحالف الشعب/الأمة المعارض للتعاون معه من جهة ثانية.

وبعَدِّهِ حزباً معارضاً وتوتّر علاقته (بالرئيس رجب طيب) أردوغان والعدالة والتنمية، كان منتظراً من الحزب دعم مرشح تحالف الشعب المعارض. وقد صدرت عن بعض قياداته تصريحات سابقة ترجّح مرشحاً على آخر، واتضح مع الوقت أنه مع ترشيح رئيس حزب الشعب الجمهوري كمال كليجدارأوغلو الذي أعلِن لاحقاً مرشحاً توافقياً لتحالف المعارضة.

وبعد الإعلان عن ترشحه، أكد كليجدار أوغلو أنه سيزور حزب الشعوب الديمقراطي ضمن أحزاب أخرى، ثم التقى قيادة الحزب في مقر كتلته البرلمانية تحت قبة البرلمان. كما تحدث في مؤتمر صحافي مشترك معهم عن ضرورة حل “المشكلة الكردية” وعن الحريات والحقوق ورفض حظر الأحزاب السياسية وتعيين أوصياء على البلديات، فيما فهم أنه خلاصة حواره مع الحزب.

التأثير

بعد اللقاء بيومين، أعلن حزب الشعوب الديمقراطي وتحالف العمل والحرية عدم تقديم مرشح رئاسي منهم، بما فهم ضمناً على أنه دعم لترشيح كليجدار أوغلو، وإن لم يتضمن الإعلان إشارة واضحة بهذا الاتجاه. بمعنى أن الحزب سيخوض الانتخابات البرلمانية بمرشحيه وقوائمه الخاصة وتحت اسم حزب اليسار الأخضر (تحسباً لصدور قرار بحظره فيما يبدو)، أما في الانتخابات الرئاسية فسيوجه القرار ناخبيه لاحقاً باتجاه مرشح محدد، والمتوقع أن يكون كليجدار أوغلو.

ويبدو ذلك القرار مخالفاً لتقاليد الحزب الذي سعى دائماً لتقديم مرشحه الخاص، حتى أنه رشح عام 2018 رئيسه السابق صلاح الدين دميرطاش المعتقل على ذمة قضايا تتعلق بدعم الإرهاب. لكن، وللأسباب سالفة الذكر والتفصيل، لم يبدُ هذا القرار صادماً في هذه الانتخابات التي تمثل التحالفات الجزء الأبرز والعامل الأهم فيها.

ونظرياً، حصل مرشح المعارضة كليجدار أوغلو على دعم كبير يعظم من فرصه في الاستحقاق القادم، حيث ضم -دون إعلان رسمي- حزباً سابعاً للطاولة السداسية حضوره في المشهد الانتخابي قد يكون أقوى من الحزب الثاني فيها (الجيد) وبالتأكيد أفضل من مجموع الأحزاب الأربعة الأخرى عدا الشعب الجمهوري.

وأما عملياً، فالأمر ليس محسوماً بهذا الشكل، ولو كان كذلك لكان الدعم معلناً ورسمياً.

فمن جهة، لم يتخذ حزب الشعوب الديمقراطي قراراً رسمياً واضحاً باتجاه كليجدار أوغلو ولا وجّه ناخبيه للتصويت له. وحتى لو فعل فهو لا يضمن تصويت الجميع له، إذ من عادة القاعدة الجماهيرية للشعوب الديمقراطي أو ما يسمى “الناخب الكردي” أن يصوت لمرشحي حزبه وليس لآخرين.

ومن جهة ثانية، سيكون هذا الدعم الضمني ورقة قوية بيد أردوغان طوال الحملة الانتخابية، إذ يفهم من تصريحات كليجدار أوغلو لدى لقائه قيادة حزب الشعوب الديمقراطي، وقرار الأخير بعد يومين فقط من اللقاء، أن تفاهماً ولو مبدئياً قد أبرم، وسيسعى أردوغان بكل قوته لإظهار الأمر على أنه تفاهم للمرشح الرئاسي مع “حزب مرتبط بالإرهاب” أو تقديم تنازلات له.

ومن جهة ثالثة، ولعلها الأهم، قد يكون لهذا الدعم ردة فعل سلبية لدى حلفاء الشعب الجمهوري وخصوصاً حزب الجيد (القومي) المعروف بموقفه السلبي من الشعوب الديمقراطي. فقد سبق لرئيسة الحزب ميرال أكشنار أن حذّرت من أنه لا يمكن ضم الأخير للطاولة السداسية ولا عرض مطالبه عليها، وإن كانت لم تمانع لقاء كليجدار أوغلو به.

وأكثر من ذلك، فقد خرج أحد قياديي حزب الجيد وعضو هيئته الإدارية ياووز علي أغار أوغلو بمؤتمر صحافي بعد إعلان الشعوب الديمقراطي، وجّه فيه انتقادات حادة لمرشح المعارضة وقال إنه قد “نُصب فخ” لحزبه في الطاولة السداسية التي كان من مؤسسيها، رافضاً “فرض ترشيح كليجدار أوغلو” وما أسماه “جعل مناصب الدولة المشرّفة أماكن مساومة للانفصاليين”، ومؤكداً “لن نكون في المكان الذي يظلله الإرهاب”.

ورغم أن حزب الجيد لم يصدر أي بيان أو تصريح بخصوص كلام هذا القيادي حتى كتابة هذه السطور، ورغم أن الأخير أكد أن ما قاله يعبر عن موقفه هو لا موقف حزبه، إلا أن كلامه يعبر عن شريحة من كوادر وقواعد حزبه، ولا يمكن الجزم بمدى تطابق رأيه مع عدد من قياداته.

وعليه، ورغم أن كليجدار أوغلو حصل على دعم الشعوب الديمقراطي ضمناً لعدم إثارة حساسية القوميين وخصوصاً حزب الجيد لضمان أصوات الطرفين، إلا أن ذلك أمر ليس مضموناً بل من الصعوبة بمكان. وعليه، قد يكون مرشح المعارضة ضحى بتأييد بدا مضموناً -إلى حد كبير- من حزب الجيد مقابل دعم غير مضمون من الشعوب الديمقراطي.

ومؤدى ذلك أن فرص كليجدار أوغلو في حسم الانتخابات الرئاسية من الجولة الأولى -كما يدعي- تبدو الآن ضئيلة جداً، لا سيما مع استمرار ترشح القيادي السابق في الشعب الجمهوري ومرشح حزب البلد محرم إينجة الذي سيحرم الأخير من بعض النقاط بسبب التشابه الفكري والسياسي والأيديولوجي بينهما.

بل ربما يكون هذا الإعلان قد عزز من فرص الرئيس التركي (أردوغان) في حسم الانتخابات الرئاسية في جولتها الأولى فضلاً عن جولة الإعادة إن حصلت، من خلال إعادة التفاف بعض الشرائح حوله بالنظر لتوسع التحالف المعارض من جهة وارتباط مرشحه بدعم الشعوب الديمقراطي المتهم بدعم الإرهاب من جهة ثانية.

ما حصل، مع تأثيراته المحتملة، قرينة إضافية على دينامية الانتخابات التركية وأن ما يفرضه الاجتماع السياسي في البلاد يجعل نتيجة الاقتراع أبعد ما تكون عن الحسابات الرياضية المباشرة.

ولذلك، لا شك أن لحزب الشعوب الديمقراطي ثقله في المعركة الانتخابية المقبلة وخصوصاً الانتخابات البرلمانية، أما في الانتخابات الرئاسية فمن الصعب الجزم بترجيحه كفة مرشح المعارضة كليجدار أوغلو بل قد يأتي بنتيجة عكسية. وعليه، قد يكون الشعوب الديمقراطي فعلاً بيضة القبان في ميزان الانتخابات الرئاسية، لكن في كفة أردوغان وليس العكس.

بواسطة : سعيد الحاج

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.