إمام أوغلو: امتحان القضاء والسياسة في تركيا

 

الحديث عن تدخل السياسة في عمل القضاء قديم في تركيا. وهو لن يتوقف بمثل هذه السهولة. المعارضة اتهمت الأحزاب الحاكمة بتحريك هذه الورقة مطولا ضدها، والحكم رد بتحميلها مسؤولية اللجوء إلى الأسلوب نفسه عندما وصلت إلى السلطة وانتقل هو إلى الجانب الأخر.

أمرت محكمة الجنايات السابعة في إسطنبول بسجن رئيس بلدية المدينة أكرم إمام أوغلو، المنتمي إلى “حزب الشعب الجمهوري” لكنه يمثل اليوم “تحالف الأمة” السداسي المعارض، لمدة 32 شهرا ومنعه من ممارسة حقوقه السياسية طيلة هذه الفترة، على خلفية إهانته أعضاء اللجنة العليا للانتخابات في آذار 2019.

دافع إمام أوغلو عن نفسه، قائلا إن تصريحاته لم تكن ضد اللجنة العليا للانتخابات بل إنها كانت عملية رد على وزير الداخلية سليمان صويلو الذي اتهمه هو أولا بالحماقة، لأنه يذهب لانتقاد بلاده أمام البرلمان الأوروبي، لكن هيئة المحكمة لم تقتنع برأيه.

كان هناك العديد من الإصلاحات الدستورية والقانونية في تركيا في عهد حكومة العدالة والتنمية. أكرم إمام أوغلو نفسه يستفيد اليوم من هذه الإصلاحات التي حالت دون عزله وسجنه فورا، بعكس ما حدث مع الرئيس التركي رجب طيب أردوغان قبل عقدين ونصف تقريبا. والفضل هنا لأردوغان وحزبه بعد تعديلات العام 2019 في قانون العقوبات التركي، وتغيير مادة إهانة الموظفين الرسميين بقرار من محكمة البداية والذي بات يستدعي عرض الملف على المحكمة العليا إذا ما لم تعطه محكمة الاستئناف ما يريد.

الشق القانوني والعدلي سيكون بيد المحاكم العليا لتدرس القضية وتصدر الأحكام بشأنها.

احتمال كبير أن لا تكتمل دائرة المحاكمات قبل موعد الانتخابات المرتقبة في تركيا خلال 6 أشهر. وأن لا تحسم القضية قبل عام على أقل تقدير بعد دراستها من ناحية الشكل والمضمون. احتمال آخر حسب رأي العديد من الحقوقيين والأكاديميين أن يُبرأ إمام أوغلو للعديد من الأسباب بينها، رفض الاستماع إلى الشهود الذين طلب وكيل الدفاع دعوتهم للإدلاء بإفاداتهم مثل وزير الداخلية سليمان صويلو، وكذلك عدم الأخذ بتقارير وآراء العديد من كبار رجال القانون والأكاديميين الذين أوصوا ببراءة المتهم انطلاقا من حالات مشابهة صدرت الأحكام بالبراءة فيها، أو بأحكام مخففة لم تستدع قرار السجن.

ارتدادات الملف على الداخل التركي سياسيا وحزبيا لن تتوقف إذن بمثل هذه السهولة. يعول البعض على ما سيقوله الرئيس رجب طيب أردوغان. لكن هناك من يرى أنه قد يكتفي بما أعلنه نائبه فؤاد أوكتاي مساء الجمعة حول أن القيادات السياسية في الحكم لن تعقب على ملف عدلي لم يعلن القضاء بعد رأيه النهائي فيه. مع أنه توقف عند “لا أخلاقية البحث عن دافع سياسي في ملف عدلي”.

هتافات الجماهير أمام مبنى بلدية اسطنبول قد تكون صادرة عن قواعد المعارضة السياسية التركية، لكنها في الوقت نفسه تعكس آراء العديد من السياسيين والمثقفين والنخب الإعلامية الداعمة لحزب العدالة والجناح المحافظ نفسه. ما  يوجع أردوغان وحزبه هذه المرة ليس إنجازات إمام أوغلو طيلة السنوات التي أمضاها على رأس بلدية إسطنبول، وهي قليلة جدا. بل محاولة الربط بين قرار قضائي وترجمته إلى موقف سياسي يهدف لعزل وإزاحة إمام أوغلو، والتلويح بمسألة أنه يستحق الإبعاد لأنه فشل في مهمة إدارة شؤون بلدية إسطنبول. القرار هنا هو للناخب وما سيقول وللصناديق وما تفرزه.

الحكم الصادر كما يقول أكرم إمام أوغلو وداعموه في صفوف المعارضة مُسَيَّسٌ ضد خصم يسعى إلى حماية حقه في البقاء داخل ساحة المنافسة. والمعارضة السداسية خلال مهرجانها الشعبي الحاشد بعد ظهر الخميس المنصرم، كشفت النقاب عن أنها لن تتردد في تحريك ورقة “المظلومية “، تماما كما حدث مع الرئيس أردوغان الذي حوكم وسجن بسبب أبيات شعر رددها في أواخر التسعينيات، ثم عاد مع حزبه الجديد ليكتسح المشهد السياسي حتى اليوم. هدف المعارضة هو تقليد أردوغان وحزبه كما جرى في العام 2001، لكن مشكلتها هي أن “حزب العدالة والتنمية ” بات له ملف حافل بالإنجازات وقواعد شعبية لا تريد تركه وتتمسك بأنه هو الفرصة الوحيدة لإخراج البلاد من كل أزماتها الاقتصادية والسياسية.

تمكن إمام أوغلو، بعد إلغاء نتائج الانتخابات التي فاز فيها في آذار 2019، بفارق 13 ألف صوت فقط، من تثبيت نجاحه والفوز على منافسه من حزب العدالة بن علي يلدريم في الجولة الجديدة من التصويت والتي أقيمت في حزيران 2019، بفارق مئات الآلاف من الأصوات هذه المرة. قيادات الحزب الحاكم استفادت حتما من الدرس وهي تدرك أن المسألة أبعد من الدفاع عن شخص إمام أوغلو، بل هي مسألة الدفاع عن ضرورة الفصل بين القضاء والسياسة في تركيا وهي معضلة مزمنة ما زالت تتصدر النقاشات الداخلية حتى اليوم.

يقول إمام أوغلو إن الحكم عليه بالسجن هو قرار “سياسي وغير قانوني”، وإن القرار يعكس الأجواء الحالية التي تمر بها تركيا. ويذكر بعض الأقلام والأصوات القريبة من الحكم بدعم عواصم غربية لفكرة إزاحة الحزب الحاكم والاستقواء بتصريحات ومواقف الرئيس الأميركي جو بايدن لإسقاط حكومة العدالة والانتقام من قياداتها بسبب ابتعادهم عن السياسة الأميركية وما تريده واشنطن. قادة المعارضة بالمقابل يرفعون شعارات مواجهة جميع أشكال الإخلال بالقانون وانتهاك الديمقراطية والاستهانة بالإرادة الشعبية. لكن الحقيقة الأخرى هي أن حزب العدالة وقياداته في السلطة نجحوا في تحقيق إنجازات سياسية واقتصادية داخلية وخارجية كبيرة رغم الكثير من الأخطاء أيضا. في نهاية الأمر الحزب الحاكم هو الذي فتح الطريق أمام أكرم إمام أوغلو من خلال إصلاحات قضائية تبقيه في مقعده، حتى اكتمال الدورة العدلية في المحاكمات وانتظار قرار محاكم الاستئناف والتمييز وهو إنجاز قضائي يهدف أولا لتوسيع رقعة الديمقراطية في البلاد وليس لخدمة السياسة أو السياسيين.

الترجمة السياسية لقرار قضائي ستحمل معها حتما العديد من السيناريوهات في الداخل التركي.

يمكن للمعارضة طبعا انتظار أخطاء الحزب الحاكم كما تفعل اليوم للاستفادة منها والبناء عليها. وبمقدورها الاستقواء بوجود مشكلات اقتصادية وأزمات اجتماعية وملفات إقليمية معقدة ومتشابكة لم تحل بعد. لكن الناخب التركي سيسألها حتما عن برامج الإصلاح والتغيير وخطط الطموح الاستراتيجي الإقليمي الذي ينبغي أن يكون قائما كمشروع منافس أبعد وأوسع من حلم قيادات العدالة والتنمية. وهذا هو المعيار الأول والأخير في الجانب السياسي من نقاشات ملف إمام أوغلو.

تفصلنا 6 أشهر عن الانتخابات التركية وهي فترة زمنية طويلة في المقياس السياسي والاجتماعي والاقتصادي. نحن نتحدث عن وضعية اليوم وملف إمام أوغلو، لكن كل المؤشرات تقول إن الطريق إلى صناديق معركة الانتخابات البرلمانية والرئاسية في الصيف المقبل ستكون استثنائية بالمقارنة مع انتخابات كثيرة شهدتها البلاد.

بواسطة / سمير صالحة 

  

 

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.