فدائية الأطباء المسلمين في مواجهة كورونا تفضح نفاق بريطانيا

لسنوات طوال، دار الحوار الوطني البريطاني حول فكرتين رئيستين: الأولى أن بريطانيا تعجّ بالمهاجرين من ذوي المهارات والقدرات المحدودة، والثانية أنها لا تستطيع تحمُّل تمويل دائرة الصحة الوطنية (NHS)، التي يجب أن تتكيف مثل أي خدمة عامة أخرى مع متطلبات العصر.

ومن هنا جاءت الخصخصة التدريجية لنُظُم تقديم الخدمات، وإغلاق المستشفيات، وإضرابات الأطباء المبتدئين، وفي نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، وجدنا 44 ألف وظيفة شاغرة في مجال التمريض.

لكن قدوم وانتشار مرض كوفيد-19، الذي يسببه فيروس ضئيل قادم من الخفافيش في الصين في أقصى الأرض، أنهى هذا الحوار.

فقدان ذاكرة كامل
كما لو أن أحد الأعراض الأولى للفيروس هو فقدان كامل ومفاجئ للذاكرة، ننسى الآن أن جيريمي هنت، وزير الصحة البريطاني، فرض عقداً جديداً على الأطباء المبتدئين لا يتضمن أجراً مقابل العمل الإضافي.

وتباهى هنت بانتصاره على الأطباء المبتدئين، الذين شوّه اليمين صورتهم. وشبه البعض انتصاره على الأطباء المبتدئين بانتصار مارغريت تاتشر على عمال المناجم. وكانت انطلاقته لمحاولة قيادة الحزب، وقد فشلت هذه المحاولة، لكنها لم تضر به.

وكل ذلك ذهب طيّ النسيان. لأن هؤلاء هم الأطباء المبتدئون أنفسهم الذين يخاطرون بحياتهم اليوم في غرف الطوارئ في طول البلاد وعرضها دون كمامات وأثواب جراحة كافية. وهو جيريمي هنت نفسه الذي انتقد رئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون لغياب اختبارات فحوص الفيروس، والأثواب، والكمامات، وأجهزة التنفس الصناعي، كما لو أنه يملك سلطة في هذا الموضوع.
ما أفضل ما يمكنك قراءته أثناء انتظارك نتائج اختبار كوفيد-19 في المستشفى؟
كتيب السياسة الذي شارك هنت في تأليفه عام 2005، والذي يدعو إلى اعتماد نظام تأمين بدلاً من هيئة الصحة الوطنية.

أبطال حقيقيون
يُطلب منا بالمثل محو جميع آثار نقاش امتد لأربع سنوات من ذاكرتنا الجماعية حول خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي الذي تمحور حول مشكلة دخول عدد ضخم من العاملين من ذوي المهارات المحدودة إلى البلاد، التي أدت إلى استحداث وزيرة الداخلية البريطانية بريتي باتل لنظام الهجرة القائم على النقاط في فبراير/شباط من هذا العام.

كم عدد هؤلاء العمال محدودي المهارات الذين يتنقلون الآن للعمل في وسائل النقل العام، مُعرضيِّن أنفسهم للإصابة بالفيروس أثناء ذلك؟ كم منهم يقود الشاحنات، أو يسلم الطعام، أو يتحمل إساءات بعض المتسوقين المصابين بحالة هستيرية عند الخروج من متاجر البقالة، أو يدير بنوك الطعام والمطاعم الخيرية، أو يؤدي العديد من الواجبات غير الطبية الأساسية التي تحافظ على الحركة في بريطانيا أثناء فترة الإغلاق؟.

إلى أي مدى تعتمد بريطانيا المنعزلة عليهم؟ أعتقد كثيراً جداً. لكنهم كانوا يُعاملون كما لو كانوا رائحة كريهة، وفي غمضة عين أصبحوا يتلقون الثناء والمديح باعتبارهم أبطال قوميين.. فهل هم هذا أم ذاك؟

لقد دفع ثلاثة أطباء حياتهم مقابل الخدمات التي قدموها حتى الآن. وهؤلاء الثلاثة هم الدكتور حبيب زايدي (76 سنة)، وهو طبيب عام من مدينة ليه أون سي. ولدى الدكتور زايدي أربعة أبناء، أولهم استشاري في أمراض الدم، وثانيتهم جرَّاحة متدربة، وثالثتهم طبيبة أسنان، ورابعتهم طبيبة عامة. وكان من الضحايا الآخرين عادل الطيار (63 عاماً) خبير زراعة الأعضاء الذي قضى أيامه الأخيرة متطوعاً في قسم الطوارئ في ميدلاندز، وأمجد الحوراني (55 عاماً)، طبيب الأنف والأذن والحنجرة، وكلاهما من السودان.

وعلى مر الأجيال، ظل هؤلاء الأبطال الحقيقيون جزء من مجموعة كبيرة من المهاجرين من آسيا والشرق الأوسط وإفريقيا تعتمد عليها دائرة الصحة الوطنية.

القوى العاملة في دائرة الصحة الوطنية
يشكل المواطنون البريطانيون 88% من القوى العاملة في دائرة الصحة الوطنية ويشكل المواطنون غير البريطانيين 12% منها، 6% منهم من مواطني الاتحاد الأوروبي و6% آخرون من خارج الاتحاد الأوروبي. لكن هذه النسب تختلف باختلاف المدن. إذ يوجد في لندن أعلى نسبة من الموظفين غير البريطانيين تصل إلى 23%.

وعند تحليل موظفي دائرة الصحة الوطنية حسب العرق بدلاً من الجنسية، تتنامى أهمية الآسيويين والسود والصينيين وغيرهم من الأعراق. ومن بين الموظفين الذين كانت خلفيتهم العرقية معروفة، يشكل البيض 79.9% من الموظفين في دائرة الصحة الوطنية، من العاملين في المجال الطبي وغير الطبي.
ولكن عند تقسيم دائرة الصحة الوطنية إلى عاملين في المجال الطبي وعاملين في غير المجال الطبي، تتجلى أهمية الموظفين غير البيض.
إذ يشكل الموظفون البيض 55.6% فقط من العاملين في المجال الطبي، بينما يشكل الآسيويون 29%، وهي نسبة أعلى بكثير من الموظفين العاملين في غير المجال الطبي (يشكلون نسبة 8%). ويشكل الموظفون من الصينيين والمختلطين والعرقيات الأخرى نسبة أعلى من الموظفين الطبيين مقارنة بالموظفين غير الطبيين.

أضف إلى ذلك أن واحداً من كل خمسة أطباء عموميين مؤهلين دائمين في إنجلترا في مارس/آذار عام 2019 حصلوا على مؤهلاتهم من خارج المملكة المتحدة، أغلبهم من دول خارج الاتحاد الأوروبي (16%- معظمهم من جنوب آسيا وأفريقيا) و4% من دول الاتحاد الأوروبي. وكان أول من يمكن أن يكون العديد من الضحايا الأطباء لمكافحة فيروس كورونا من المسلمين أو من أصول آسيوية أو إفريقية أو ممن يحملون هذه الجنسيات.

وأفردت صحيفة The Sun البريطانية صفحتها الأولى للحديث عن أحد هؤلاء الضحايا ولكن بخلاف ذلك لم يحتل أي منهم الصفحات الأولى من صحف Daily Express وDaily Mail وDaily Telegraph. وهو أمر غريب، لأنه عندما يكون المسلم إرهابياً، فلن يكون الأمر صعباً على هذه الصحف بهذه الدرجة.

وحتى الآن، وحتى اليوم، ما تزال صحيفة The Sun تتحدث عن ترك كبار السن للموت، في ظل تزايد حالات “انتقاء ممن هم بحاجة أكبر لأجهزة التنفس الصناعي”، وسحب أجهزة التنفس عن كبار السن وتركهم يموتون لادخار هذه الأجهزة النادرة لمن هم أصغر سناً. وقد فصّل محررها السياسي المخضرم تريفور كافانا مزايا إعادة الاقتصاد للوقوف على أقدامه، متعللاً بأن من سيموتون بسبب الاقتصاد المنهار أكثر ممن سيموتون بسبب الفيروس.

كشف الحقيقة
كشف هذا الفيروس عن حقيقة غير معلنة حول بريطانيا بعد خروجها من الاتحاد الأوروبي، التي قد تفعل الغالبية العظمى من الساسة البارزين أي شيء عدا تناولها. فثمة رؤيتان أمام هذا البلد: هل بريطانيا هي الهوية الجماعية لشعبها بغض النظر عن المكان الذي جاؤوا منه وتوقيت وصولهم واستقرارهم؟ أم أن رأس مال هذه الدولة ثروتها وأثرياؤها؟

هل نحن متساوون أمام جهاز تنفس صناعي أم أن كبار السن أقل أولوية في أوقات نقص الأجهزة والطوارئ؟ ما نوع المجتمع الذي نحاول الحفاظ عليه؟ ومن نحتاج للدفاع عنا؟

إن دائرة الصحة الوطنية -وليس صحيفة The Sun ولا هنت ولا جونسون- هي حاميتنا من أشد العوامل تدميراً التي تضرب اقتصادنا منذ الحرب العالمية الثانية. وعندما نقرأ The Sun، هل يمكننا على الأقل أن نعلم بأمر مقالها الافتتاحي المشين الذي نشرته في 24 مارس/آذار عام2016؛ تحت عنوان “اطردوا الأطباء“؟

لقد ثبت أن الفيروس الصغير الذي لا نملك مناعة ضده أشد تدميراً لحياتنا من جميع أعداء بريطانيا التقليديين مجتمعين. إذ إن فيروس مجهول -وليس إيران، ولا بوتين، ولا تنظيم الدولة الإسلامية، ولا موظفو بروكسل، ولا اللاجئون الذين يجوبون البحر المتوسط- هو ما أدى إلى توقف بريطانيا.
وهو فيروس علَّمنا أن نقدِّر المهاجرين وأبناءهم، وأن نقدر ذوي الأجور المتدنية، وأن نقدر حماقة الاختباء وراء الجدران في عالم مترابط، حيث ما كان يحدث في ووهان في أحد الأيام يحدث في شارعك في اليوم التالي.

يوم الحساب
وهذا ليس بالأمر الجديد. إذ كانت بريطانيا تعتمد بشكل كبير على المواطنين غير البريطانيين في أوقات الطوارئ الوطنية في أزمات سابقة: ففي معركة بريطانيا حلّق 574 طياراً من دول أخرى غير المملكة المتحدة إلى جانب 2353 طياراً بريطانياً. وكان هؤلاء الطيارون من بولندا ونيوزيلندا وكندا وتشيكوسلوفاكيا وبلجيكا وأستراليا وجنوب إفريقيا. وكم كان من السهل نسيانهم.

وقبل أشهر فقط والحملة الانتخابية في ذروتها، لم يرغب أحد -ولا حتى قطاعات كبيرة من حزب العمال- في تنظيم حملة ضد الجانب المظلم من بريطانيا الحديثة التي كشف عنها الفيروس الآن: وهو عدم استقرار العاملين، وجوع الأطفال خلال فترات العطلات، ومغادرة الممرضين والممرضات لدائرة الصحة الوطنية بأعداد كبيرة.
وتتصدر هذه الأمور الآن انتباه الجميع، لكنها لم تكن كذلك حينها.

كان لدى زعيم حزب العمال السابق جيريمي كوربين رسالة واضحة للغاية حول بريطانيا بعد خروجها من الاتحاد الأوروبي. وسيكون من الصعب على المؤرخين أن يفهموا كيف لرجل واحد أن يكون محقاً بهذا القدر بشأن المشكلات التي أصبحت في الصدارة في الأسبوع نفسه الذي خرج فيه من منصبه.

ويعامله زملاؤه الآن على أنه عار، وأسوأ زعيم للحزب بعد مايكل فوت، ولكن لو أن بريطانيا استمعت إليه فيما يخص نقص الموظفين في دائرة الصحة الوطنية، والعاملين من ذوي المهارات المحدودة والأجور المنخفضة، والاقتصاد القائم على الوظائف المؤقتة، لما كنا في هذه الفوضى التي نحن فيها الآن.

ومن ينبغي أن يشعر بالحرج هم أولئك -لا سيما في حزبه- الذين تعاونوا لطعنه في ظهره. ولن يدعنا هذا الفيروس نسامح أو ننسى.
ستذهب أرواح الآلاف هباءً قبل انتهاء هذه الأزمة، وبعدها سيأتي يوم الحساب.

عربي بوست– هذا الموضوع مترجم عن موقع Middle East Eye البريطاني.

تعليق 1
  1. زيدان يقول

    رد البريطانيين بسبب تزايد الأجانب هو رد طبيبعي ,كأي مجتمع على وجه الأرض.
    و ستحدث مستقبلا أحداث دموية , لو زادت نسبتهم أكثر, أو زاد الفقر

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.