سياسات التوازن في السياسة الخارجية التركية

انتهجت تركيا سياسة توازن في سياستها الخارجية منذ بداية الحرب الروسية الأوكرانية. ولا يمكننا اعتبار هذه السياسة سياسة حيادية. لقد وقفت تركيا، باعتبارها دولة عضو في حلف شمال الأطلسي (الناتو)، جنبًا إلى جنب مع حلفائها في الحلف ضد الغزو الروسي لأوكرانيا، ووصفت روسيا بأنها قوة محتلة، وأكدت أنها تقف إلى جانب أوكرانيا، ودعمت الجيش الأوكراني بالمسيّرات التركية “سيها”، ومع ذلك، لم تتورط في ممارسات حلف الناتو المتمثلة في جعل روسيا دولة عدوة ومعزولة.

ولم تشارك تركيا في عمليات الحظر المفروضة على روسيا، ولم تغلق مجالها الجوي أمام الطيران الروسي، وحافظت على علاقاتها مع روسيا على خط معين على جميع المستويات.

وبرز الرئيس أردوغان باعتباره الرئيس الوحيد، من بين رؤساء الدول الأعضاء في حلف الناتو، الذي يمكنه لقاء كل من الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، والرئيس الروسي فلاديمير بوتين.

وقد رأينا ثمار هذه اللقاءات على الساحة السياسية. وعلى الرغم من أنها لم تفض إلى نتيجة حاسمة، إلا أن تركيا نظمت الاجتماع الوحيد المنعقد بين وفدي كبار المسؤولين في الدولتين المتحاربتين في إسطنبول. ومرة أخرى، قامت تركيا بعمل رائع في فتح ممر آمن لتصديرالحبوب؛ ما جعلها تنجح في منع حدوث مجاعة في إفريقيا، وذلك بفضل قدرتها على مواصلة علاقاتها مع الجانبين الروسي والأوكراني. وفي كل فرصة، تعرب تركيا عن استعدادها للقيام بدور الوساطة لإنهاء الحرب الروسية الأوكرانية.

ما هي النتائج التي تحققت نتيجة هذا الأداء الخاص لتركيا؟

بداية، يمكننا القول إننا تلقينا تقديرًا كبيرًا من خلال الخطابات والتصريحات التي أدلى بها رؤساء الدول والحكومات. وعبرت دوائر الأمم المتحدة، ومسؤولو الاتحاد الأوروبي، والولايات المتحدة، وخاصة الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريس، عن امتنانهم لأداء تركيا. وانضم زيلينسكي أيضًا إلى قافلة الشكر هذه في الاجتماع المنعقد في مدينة لفيف الأوكرانية. كما أعرب بوتين عن امتنانه للرئيس أردوغان في اجتماع سوتشي.

هذا أمر جيد أليس كذلك؟ لكن عندما نفكر مليًّا في الأمر، يمكننا أن نرى أن الصورة ليست مشرقة جدًا، بل يعتريها العديد من الشوائب.

لنلق نظرة على الاتحاد الأوروبي. يمكننا القول إنهم سعداء بافتتاح ممر الحبوب؛ لأنهم كانوا قلقين من أن يتسبب استمرار أزمة الحبوب، والمجاعة المحتمل أن تبدأ في إفريقيا، في حدوث هجرة جماعية إلى أوروبا. لذا فإن تجاوز أزمة الحبوب كان من شأنه أن يريح الاتحاد الأوروبي.

ومن ناحية أخرى، رأينا أن دوائر الاتحاد الأوروبي قد انزعجت للغاية من استمرار علاقات تركيا مع روسيا، وخاصة اجتماع سوتشي الأخير الذي استمر لساعات. لقد أظهروا على الفور أن العملية، التي جعلتهم يشعرون بالراحة من الناحية التكتيكية، قد ازعجتهم من الناحية الاستراتيجية. وبالطبع، كان هذا مجرد مظهر من مظاهر الانزعاج الذي شعر به تحالف الولايات المتحدة وبريطانيا، والذي كاد أن يضع الاتحاد الأوروبي في حالة من الفوضى.

وتريد المملكة المتحدة، التي تلعب دور الشرطي الجيد ضد تركيا، إبقاء التقارب الأذربيجاني التركي تحت سيطرتها واستخدامه ضد كل من روسيا والاتحاد الأوروبي في وقت واحد. وعلى وجه الخصوص، يمكننا أن نلاحظ أن المملكة المتحدة غير مرتاحة على الإطلاق للتقارب بين الاتحاد الأوروبي وأذربيجان. وأود أن أؤكد أنني أعتبر اقتحام أعضاء منظمة غير معروفة للسفارة الأذربيجانية في لندن ترهيبًا في هذا الاتجاه.

تتفهم روسيا موقف تركيا وتتقبله جيدًا، حتى لو كانت تعاني جزئيًا من تطبيق معاهدة “مونترو” بشأن المضائق ، فإنها وجدت الراحة أخيرًا في البحر الأسود. لاسيما أن عدم مشاركة تركيا في عمليات الحصار المفروض على روسيا، وإبقاء المجال الجوي التركي مفتوحًا أمام الطيران الروسي، واستمرار العلاقات التجارية تُعد تطورات ترضي روسيا.

ويُعد الاجتماعان اللذان عقدا بين بوتين وأردوغان في طهران وسوتشي، من الأهمية بمكان. وتريد روسيا، أن تكون هناك منطقة عازلة بين إيران وتركيا، وأن يكون هناك تعاون فيما بينهما في سوريا. وتنوي فتح قناة للحوار بين تركيا والنظام السوري. ومن المعلوم أنها أجبرت النظام السوري مؤخرًا على فعل ذلك.

وأعتقد أن قضية الأسد أسيء فهمها في المناقشات التي دارت في تركيا مؤخرًا. فالقضية ليست الاتفاق أو المصالحة بين تركيا والنظام السوري. القضية أن روسيا تريح الطرفين نسبيًا وتقلل من تأثير الكتلة الغربية في المنطقة. وما يمكن أن تفعله تركيا في إدلب هو تجميع المعارضة ككتلة وإقناعها ببعض الأمور. من ناحية أخرى، فإن السياسات التي سيطورها النظام السوري ضد تنظيم “بي كي كي/واي بي جي”، وعودة السوريين المقيمين في تركيا هي المتغيرات الرئيسية في المسار. إنه وضع متغير وصعب للغاية. وسنرى ما إذا كان يمكن تحقيقه.

ولم يتغير شيء على الجبهة الغربية. فالمخطط الذي يدبرونه ضد تركيا في شرق البحر الأبيض المتوسط، يتم تنفيذه بإصرار بنظام “3 + 1” من خلال الولايات المتحدة الأمريكية، وإسرائيل، واليونان، وجنوب قبرص.

أما عن العلاقات المصرية التركية فهي مستمرة في مستويات سلبية. والسويد وفنلندا، اللتان تريدان الانضمام إلى حلف الناتو، لا تطبقان مذكرة التفاهم.

وتتوالى التصريحات الصادرة من الكونغرس الأمريكي المطالبة بتعليق توريد الطائرات المقاتلة من طراز F-16 إلى تركيا وجعلها مشروطة. وتواصل الكتلة الأنجلو أمريكية إصرارها في الضغط على تركيا. وفي اللحظة التي انتشرت فيها أخبار شراء صفقة جديدة من منظومة صواريخ “إس400 – ” الروسية، بدأت التحذيرات من دوائر الخزانة الأمريكية في الوصول إلى تركيا، للامتثال للحظر المطبق على روسيا.

وفي فرنسا، تُبذل جهود للحيلولة دون فوز أردوغان في انتخابات عام 2023. وفي هذه الأثناء، يقترب الموسم السياحي من نهايته. أما عن اليونان فهي تستعد للخريف بكل ما تملك من اللاعقلانية والخداع.

وفي المحصلة، يمكنني أن أتوقع أن تركيا لن يكون بمقدورها مواصلة سياسة التوازن في سياستها الخارجية التي اتبعتها بنجاح حتى الآن، بسهولة خلال الأشهر المقبلة، كما كانت تديرها من قبل.

سليمان سيفي أوغون بواسطة / سيفى أوغون

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.